الطاقات المبدعة ثروة وطنية من خلال تجربة ديوان أهل القلم في لبنان
د. سلوى الخليل الأمين
(رئيسة ديوان أهل القلم – لبنان)
وتبقى الجزائر في البال قضية العروبة الثابتة والمقاومة الناجحة والتضحيات الجسام ..
وتبقى الجزائر في البال وطن المليون شهيد ، وجميلة بوحيرد .. ورقم الزنزانة تسعون .. وتبقى الجزائر في البال .. وطن المناضلين والقادة الأبطال، الذين لم يكلوا ولم يملوا، ولم يهنوا أو يضعفوا، أمام جبروت المستعمر الفظ ، الذي حاول شطب هوية الجزائر العربية، ومحو لغة الضاد عن ألسنة شعبها .
نعم .. هي الجزائر .. هي الجمهورية العربية الديموقراطية الشعبية .. هي مفخرة العرب وراية العروبة ،والمثل والمثال في المقاومة والتحرير، والصمود والتصدي. هي الجزائر التي كانت وما زالت وستبقى في خاطرنا أجمل العناوين.
فيوم كنا صغارا في الجنوب اللبناني، كنا نهتف لجزائر بن بيلا وهواري بو مدين وكل الرفاق الثائرين الحاملين أقدارهم ودماءهم شهادة حق وفداء، كي تبقى هذه الأرض، أرض الجزائر، حرة عربية ومستقلة..
وها أنا اليوم في الجزائر.. أرفع الحلم راية افتخار وشهادة إبداع، أحببت نقلها إليكم من وطني لبنان .
هي تجربة شخصية مارستها حين أسسنا كمجموعة من الأكاديميين والأخصائيين التربويين والكتاب والأدباء “ديوان أهل القلم” ومن ثم “ندوة الإبداع” . والهدف تسليط الضوء على الطاقات اللبنانية والعربية المبدعة في عالم الانتشار وداخل لبنان.
كل بداية صعبة ، لكن مع الثقة والصبر والإرادة يتم النجاح ، خصوصا إذا ما أدركنا أن للإبداع معاييره ومقاييسه المختلفة، المرتكزة أصلا على موهبة هي منحة من رب العالمين ، حيث أن الإنسان المبدع يرى ما لا يراه الآخرون، حين يتم العمل على إدراك موهبته وذكائه وتطعيمهما بالمعرفة المطلوبة وبتنظيم الأفكار، من أجل جعل هذه الطاقة الخلاقة في خدمة المجتمع البشري قاطبة، حيث أن الطاقات البشرية الموهوبة والمبدعة هي ثروة حقيقية لأوطانها، على الدول الاهتمام بها وإيلائها المكان الأرحب من الرعاية المطلوبة.
فالله جل جلاله حين ميز الإنسان بالعقل ، جعله أفضل مخلوقاته ، ومنحه بواسطة العقل القدرة على التطوير والتحديث والإبداع من أجل الإتيان بأشياء جديدة، شكلت حضارات الأمم عبر العصور وعلى مر التاريخ. فالعقل المقرون بالموهبة والذكاء يبقى هو القادر على التصور أو التخيل الذي يلتقط المعلومة ويعمل من خلال موهبته وحدة ذكائه إلى تطويرها وإعادة انتاجها بإسلوب مبتكر يكون تجسيدا للحالة الإبداعية.
من هنا أهمية الاهتمام بالموهبة وصقلها منذ الصغر، والعمل على تنميتها بالعلوم المعرفية وبالقدرة على الانتاج وتوليد الأفكار المتطورة، كما الشجرة التي هي بحاجة ماسة إلى الري كي تنمو وتكبر وتنتج ثمارها الطيبة .
وبما أننا آمنا بقدرة العقل البشري على إفراز الطاقة البشرية المبدعة، اتخذنا القرار في العام 1999 في لبنان، بتأسيس ديوان أهل القلم ، بهدف تسليط الضوء على الطاقات المبدعة في جميع الاختصاصات، خصوصا في عالم الانتشار ، والعمل على إعادة ربطهم بوطنهم الأم لبنان، عبر إقامة جسر تواصل يربط لبنان المقيم بلبنان الممغترب .
بدأنا البحث والتدقيق ، بعد أن التزمنا القرار بالتفتيش عن المبدعين اللبنانيين خارج الوطن ، المهمة صعبة وشاقة ، لكن اختراق الحواجز وتذليل المعوقات، إن لم يكن بالأمر السهل لجمعية أهلية مدنية، لا تملك مقومات الدولة والإدارة الرسمية، ولاتتلقى أي دعم من الدولة اللبنانية سوى التصفيق والتهنئة حين نجاح العمل، لم يكن بالمهمة المستحيلة حين يمتلك المرء حس المسؤولية بأن يكون متفوقا في المهمة العملية الوطنية التي تنكب القيام بها.
سخر منا العديد من المحيطين بنا بالقول : خليكم على الأرض أي في داخل الوطن .. لكن إيماننا بالتحدي وخصوصا لدي ، كوني رئيسة الديوان، بأن لا شيء في الحياة مستحيلا، حين الإرادة المعطوفة على الجرأة والإقدام والثقة بالنفس هما الرصيد الذي انطلقنا منه ، وجعلنا نحصد النجاح تلو النجاح، وهذا لعمري هو الإبداع بعينه.
هنا يرتسم السؤال الأصعب : كيف يكون النجاح بإمكانيات مادية تساوي :صفر، لهذا قمنا بوضع منهجية دقيقة للانطلاق بالعمل، عبر حث الشركات التجارية والمصارف على المساهمة معنا في سبيل إنجاح نشاطاتنا التي أدهشت الجميع بحسن تنظيمها وعملية اختيار المبدعين الذين باتوا معروفين من كل شرائح المجتمع اللبناني .
أما عملية اختيار الطاقات اللبنانية المبدعة في عالم الانتشار فكانت تخضع لدينا إلى معايير معينة ،من أهم مقوماتها تفوقهم وتميزهم في الدول التي يقيمون فيها، واعتراف تلك الدول بإبداعاتهم بشكل رسمي صادر عن أعلى المواقع الرسمية المختصة ، التي تؤكد لنا تميزهم نظرا لنتائج أعمالهم واختراعاتهم المبدعة التي تفيد البشرية والحضارة الإنسانية.
البداية.. كانت في تكثيف عملية البحث عن الطاقات المبدعة ، خصوصا أن النجاح والإبداع يصبح حديث الناس، حيث في حال التميز بالموهبة الخلاقة والتفوق بالاختراعات الحديثة المتطورة على مختلف الصعد العلمية والمعرفية، يضيف للحضارة الإنسانية أشياء جديدة ، غير الأمور المألوفة أو ما خفي منها ، ويضيف إلى وطنه مكانة مرموقة في مجال الأبحاث والاختراعات التي تزيد من قوة حضارته وارتفاع عظمتها . ففي حين حدوث أي اكتشاف أو اختراع من أي لبناني موهوب خارج الوطن ، كانت وسائل الإعلام كلها تتناول الخبر بفخر حتى في لبنان، وهذا ما حدث حين تناقلت وسائل الإعلام اللبنانية أخبار إبداعات كل من كرمناهم في مختلف الاختصاصات، والذين تجاوز عددهم ال20 شخصية عالمية لتاريخه، ومنهم في الولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا والأكوادور وفرنسا وألمانيا ويوغوسلافيا وكندا.
وهنا لا بد من التذكير بأن من إنزل أول مركبة” سبيريت” على سطح المريخ في العام 2004 هو المبدع اللبناني الأميركي الجنسية البروفسور شارل العشي، رئيس مركز الدفع النفاث في وكالة الفضاء الأميركية الناسا ” JPLمركز / NASA” ، الذي أطلق اسمه على كوكب في الفضاء يحمل حاليا اسم ” العشي 4116″ .الذي قال : ” أنا نشأت في سهل البقاع اللبناني، ولو أنني قلت للناس أنه سيأتي اليوم الذي أصبح فيه مديرا لمختبر الدفع النفاث لسخر مني الناس وقتها، لكن عندما تزواج الحلم بالعمل الجاد فإن كل شيء أصبح ممكنا”.
وأضيف لقول البروفسور العشي: إنه لو لم يكن موهوبا وذكيا ومثابرا ومجتهدا لما وصل إلى ما هو عليه ، بحيث أن رئيس الولايات المتحدة الأميركية جورج دبليو بوش في العام 2004، وعند هبوط المركبة على سطح المريخ، وهو إنجاز علمي عالمي شكل لأميركا إنجازا عظيما في مجال علوم الفضاء، باشر إلى تهنئة البروفسور شارل العشي على هذا الحدث المهم عبر الهاتف، وأرسل إليه وزير خارجيته شولتز مهنئا.
لهذاعلينا أن نعترف أن الموهوب ثروة وطنية لبلده وللبشرية جمعاء، لذا فإن عملية التكوين ورعاية الموهوب ضرورية ، بل هي أمر واجب الوجوب من أجل التقاط نواحي الإبداع التي تنعكس إيجابياتها على المجتمع بكامله ، وهذا ما تقوم به الدول الحضارية المقتدرة ، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الولايات المتحدة الأميركية، التي تولي اهتماما ملحوظا بموهوبيها بحيث يتم رصدهم في المراحل التمهيدية، حيث يتم قياس ذكائهم ضمن معايير موضوعة لهذه الغاية ، ومن ثم يعمل على فصلهم عن زملائهم في المدارس، وتجمعيهم في مدارس خاصة يطلق عليها اسم : مدرسة الموهوبين، وهؤلاء يهيؤون كي يقودوا بلادهم في المستقبل إلى المراتب العليا والمواقع المختلفة.
وهنا لا بد من ذكر حادثة واجهتني في السفارة الأميركية في بيروت حين استدعوني للتحقيق عن كيفية تمكني من التواصل مع العالم البروفسور شارل العشي ، وكيف تجرأت بدعوته إلى لبنان في الظرف الصعب بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري والوضع الأمني اللامستقر ، وحين أبديت استغرابي لسؤالهم وهو لبناني ونحن معنيون به أجابني القائم بالأعمال : هو أميركي يحمل جنسية الولايات المتحدة الأميركية وأهميته لدينا تفوق أهمية رئيس الجمهورية ، نحن كل أربع سنوات نختار رئيسا للبلاد، لكن لا نستطيع أن نأتي بعالم موهوب كشارل العشي يرفع اسم أميركا إلى المريخ ..وعالم المجرات.
أخيرا ، اسمحوا لي أن أتوجه بالشكر لصاحبي المعالي وزير التعليم العالي والبحث العلمي ووزير الشباب والرياضة كما إلى الجمعية الجزائرية للموهوبين والمتفوقين ورئيسة الملتقى الدكتورة نعيمة بن يعقوب وإلى جامعة الجزائر على استضافتهم لنا في وطننا الثاني الجزائر … وأتمنى أن نجد في المستقبل القريب العديد من الموهوبين الجزائريين الذين سيرفعون هذا الوطن إلى فضاءات السماوات السبع الطباق … وشكرا .
****
(*) كلمة د. سلوى الخليل الأمين في الملتقى الدولي للتكوين الموهبة والإبداع الذي نظمته الجمعية الجزائرية للموهوبين والمتفوقين ( AAST) وجامعة الجزائر 2 / وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، برعاية وزير التعليم العالي والبحث العلمي، ووزير الشباب والرياضة، الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية، في الفترة الممتدة من 18إلى 21 مارس 2017.