صَرامَةُ النَّاقِدِ ورِقَّةُ الشَّاعِرِ في بَيانٍ سَلِسٍ صَبِيح  

(جَولَةٌ سَرِيعَةٌ في نِتاجِ الأَدِيبِ جان كمَيْد)

 مُورِيس وَدِيع النَجَّار

(أديب وشاعر وروائي وقاص وناقد- لبنان)

أَصَدِيقَنا، والسَّاحُ تَنضَحُ كَيْدَا،  وسَوادَ أَقلامٍ، وغِلَّ سُوَيْدا،

وصَحائِفًا صُفْرًا ذَوَت، وتَضَمَّرَت،   مَحَلَت حُرُوفًا، واستَحالَت بَيْدَا،

أَنتَ الرَّبِيعُ زَها بِفَورَةِ رِيشَةٍ   أَنَّى تَمِدْ، تَمِدِ المَواسِمُ مَيْدَا

فَإِذا غَدَوتَ إِلى مِدادِكَ عازِمًا لِمَحاسِنِ الأَلفاظِ كُنتَ القَيْدَا

طالَت “سِياحاتٌ وجَولاتٌ”(1)        وها قد عُدْتَ مِ التَّسفارِ تَكنِزُ صَيْدا

تُعطِي لِكُلٍّ حَقَّهُ في البَدْعِ لا   تَحنُو على عَمْرٍو وتَقتُلُ زَيْدا

وتَقُولُ: إِنِّي قد أَضَعتُ العُمْرَ(2) في  بَيداءَ مُقفِرَةٍ، أَدُبُّ رُوَيْدا!

يا صاحِبِي لا، كُلُّ ما أَبدَعتَهُ   كَلِمٌ تَلَأْلَأَ، أَو تَدَلَّلَ غَيْدَا

فَاعصِمْ أَيا قاضِي الرَّحِيلِ أَدِيبَنا    وَامطُلْ نِداءَكَ، لا تَقُلهُ: بُعَيْدا

فَهْوَ الكَبِيرُ مع الكَلامِ وإِن يَكُنْ   يَدعُوهُ داعٍ في الرِّجالِ “كُمْي

أَن تَتَكَلَّمَ في أَدِيبٍ كَبِيرٍ لازَمَ حَرَكَةَ الثَّقافَةِ لِعُقُودٍ وعُقُودٍ، وكان فاعِلًا فِيها، ومِن قادَةِ رَأيِها المُعتَبَرِينَ، فَإِنَّ هذا لَشَأنٌ جَلَلٌ يَتَطَلَّبُ البَحثَ، والتَّدقِيقَ، والإِحاطَةَ، بِنِتاجٍ انداحَ أُفُقِيًّا، وتَغَوَّرَ عَمُودِيًّا، وبَقِيَ مُتَوَهِّجًا على الأَيَّام.

صاحِبُنا ناقِدٌ ما كَبَّلَتهُ دِراساتٌ أَكادِيمِيَّةٌ في أُطُرٍ جامِدَةٍ، ومِزاجُهُ النَّقدِيُّ يَتَوَكَّأُ على ذائِقَةٍ مُرهَفَةٍ، وحَساسِيَّةٍ بالِغَةٍ تَلتَقِطُ أَدَقَّ اللُّمَعِ في نَسِيجِ النَّصِّ، وتَكشِفُ الجَمالَ في مَظانِّهِ، وتَجلُو البَدِيعَ ولو في مَخابِئِهِ القَصِيَّة.

هو مِمَّن يَقرَأُونَ، فَيَنطَلِقُونَ إِلى حُكمِهِم كَالسَّهمِ الثَّاقِبِ، لا تَلوِيهِ رِيح.

يَرَى الوَردَةَ فَيَرُوحُ يُطرِيها، ويُداعِبُها بِأَنامِلِهِ الرَّخِيَّةِ، ويَمُرُّ على أَشواكٍ صَغِيرَةٍ فَيُغضِي عَينَهُ، وإِمَّا عَرَضَت واحِدَةٌ صُلبَةٌ عَنِيدَةٌ، فَإِلَى مِبضَعِهِ، لا يُساوِمُ، ولا تُلَطِّفُ قَبضَتَهُ المُجامَلات. وهو، في هذا، مُنصِفٌ مع مَن يَتَناوَلُهُم، ولهُ فَضلٌ مُبِينٌ على مَن يَغمِزُهُم، لِأَنَّهُ لا يُجَرِّحُ، بل يُصَوِّبُ سَبِيلَهُم، ويَدفَعُهُم إِلى التَّمحِيصِ والتَّنَخُّل.

ثَقافَتُهُ شامِلَةٌ، عَمِيقَةٌ، اكتَنَزَت مِن طُولِ مِراسٍ مع الكُتُبِ ومُنشِئِيها، وذَوقُهُ في تَفَهُّمِ النُّصُوصِ ما تَجافَى يَومًا مع المُتَّفَقِ على صِحَّتِه، وشَفافِيَّتِهِ، وجَمالِه.

جَمَعَ صَرامَةَ النَّاقِدِ ورِقَّةَ الشَّاعِرِ في بَيانٍ سَلِسٍ صَبِيح. وأَتقَنَ اللُّغَةَ حَتَّى التَّزَمُّتِ، فَما هادَنَ في شُؤُونِها، على أَنَّهُ جَانَبَ وَحشِيَّها والمُندَثِر. وهو جَدِلٌ، حاضِرُ الدَّلِيلِ، في دِفاعِهِ عن الفُصحَى، الَّتي يَعرِفُ جَيِّدًا مَكامِنَ غِناها، وجَمالاتِها، ومُوسِيقاها الكامِنَةَ في أَلفاظِها، لَكَأَنَّهُ الأَلسُنِيُّ المُتَخَصِّصُ، حين هو العِصامِيُّ في جُهدِهِ ومُكتَسَباتِه.

يقول: “فَلا نُفَكِّرَنَّ بِطَرحِ هذه اللُّغةِ ونَبذِها، وإِلَّا فَقَدَ تُراثُنا الأَدَبِيُّ الأَعلامَ الَّذين نُفاخِرُ بِهِم”(3).

لِذا فهو يَرفُضُ، قَطعًا، استِبدالَها بِأَيَّةِ عامِّيَّةٍ، أَو الهُرُوبَ مِن حَرفِها الذَّهَبِيِّ إِلى أَيِّ حَرفٍ مُستَورَدٍ آخَر. ولا غَرْوَ، فهو مِن أَساطِينِها، صاغَ فِيها ما لن تَكسِفَهُ الحِقَب.

أَديبُنا يُدلِي بِدَلوِهِ في كَثِيرٍ مِن المَسائِلِ الأَدَبِيَّةِ، فَيَبرُزُ فِيها ابنَ بَجْدَتِهِ، عُدَّتُهُ ثَقافَةٌ شامِلَةٌ، وخِبرَةٌ شَخصِيَّةٌ طَوِيلَة.

فَفِي الشِّعرِ، مَثَلًا، هو مِن دُعاةِ الجَمالِيَّةِ الفَنِّيَّةِ، لا الالتِزام. يَقُول: “لِلشِّعرِ خَصائِصُ جَمالِيَّةٌ تَتَجاوَزُ المَضمُونَ في مَداها، فما كان المَضمُونُ لِيُشَكِّلَ شَرطًا ضَرُورِيًّا لِلشِّعر”(4).

ونَراهُ، هُنا، على مَذهَبِ الجاحِظِ القائِلِ: “فَأُعلِمُكَ أَنَّ فَضلَ الشِّعرِ بِلَفظِهِ لا بِمَعنَاهُ، وأَنَّهُ إِذا عَدِمَ الحُسنَ في لَفظِهِ ونَظمِهِ لَم يَستَحِقَّ هذا الإِسمَ بِالحَقِيقَة”.

هذا الباحِثُ الرَّصينُ، المُنَقِّبُ الأَمِينُ، الصَّائِغُ أَجمَلَ الكَلامِ لَبُوسًا لِأَرقَى المَضامِينِ، لم يَكُنْ عَصِيًّا على الدَّلالِ، ولا مَرَّ بِهِ الحُسنُ إِلَّا ولَفَحَهُ في الحَنايا، يَومَ هو في غَضاضَةِ الصِّبا، وفي مَهَبِّ “الثُّغُورِ الضَّواحِكِ”(5)، فَإِذا الرِّيشَةُ سَكرَى، والغَزَلُ رَقِيقٌ كَوَجنَةِ الحَسناءِ المُلهِمَةِ، حَنُونٌ كَبُحَّةِ نايٍ، ورَنِيمِ كَنَّارَة.

نَسمَعُهُ يقول:

“أَمَّا أَنا فَأَظَلُّ أَطوِي سِيرَةً   أُخِذَت حَلِيفَ العُمرِ في مِيثاقِ

وأَذُوقُ حُلوَ الشَّهدِ يَزكُو طَعمُهُ  ويَظَلُّ يَهفُو لِلقَدِيمِ مَذاقِي

فَأَحِنُّ لِلماضِي، لِصُورَةِ دُميَة  رَيَّا الجَنَى، فَنَّانَةِ الإِرهاقِ

أَوسَعتُها.. ما الضَّمُّ، ما رَشفُ اللَّمَى،  ما لُطفُ دَغدَغَةٍ وطِيبُ عِناقِ!”(6)

ويَطغَى الوَهِيجُ في الوَرِيدِ، فَيَنسَلُّ اللُّهاثُ إِلى المِدادِ، فَإِذا في الصَّحِيفَةِ عَبَقُ شَهوَة. يقول:

“فَعِطرٌ في اللُّهاثِ وفي الثَّنايا  وعِطرٌ بَينَ نَهدَيها مُثِيرُ

فَيا لَلخَزِّ مَكسُوًّا بِعِطرٍ،     ويا لَلعُريِ يَستُرُهُ العَبِيرُ”(7)

صَدِيقَنا…

يا مَن “فَهِمتَ العَيشَ أَخذًا بِاللُّبابِ”(8)، نَحنُ بِحاجَةٍ إِلى أَمثالِكَ، فَقَد أَوشَكَ الخَرْقُ أَن يَتَّسِعَ على الرَّاقِعِ، في زَمَنٍ طَغَت فِيهِ الاستِهلاكِيَّةُ على انخِطافِ الرُّوحِ في كُلِّ جَمال، واستَكبَرَ المُسَيلِماتُ(9) على الأَصائِل. أَوَلَيسَ “الضَّوءُ تَلتِمُسُهُ بِحَنِينٍ إِذا أَحسَستَ بِدُنُوِّ العَتَمَات”، كَما يَقُولُ المُطرانُ المُفَكِّرُ جُورج خُضْر؟!

هَنِيئًا لَكَ، ولَنا، ما تَرَكتَ في جَنَّةِ الكِتابِ، إِرثًا لَن يَخبُوَ ولَن يَؤُولَ إِلى يَبابٍ، فهو مِن مَتاعِ الآتِي، لِأَنَّهُ استَشرَفَ، في تَعَمُّقِهِ، خَلايا الخُلُودِ وخَلَدَ إِلى واحِدَةٍ مِنها، عَزِيزًا رَفِيعَ العِماد.

أَدامَكَ الله!

*****

(1): إِشارَةٌ إلى مُجَلَّدَيهِ “سِياحاتٌ مع الشُّعَراءِ والأُدَباءِ والفَنَّانِين” و”جَولاتٌ في آفاقِ الفِكرِ والأَدَب”.

(2): دِيوانُهُ “أَضَعتُهُ العُمْر”، صَفحَة 46.

(3): “جَولاتٌ في آفاقِ الفِكرِ والأَدب”، ص 82.

(4): “سِياحاتٌ مع الشُّعَراءِ والأُدَباءِ والفَنَّانِين”، ص 12.

(5): “أَحِنُّ إلى لَثْمِ الثُّغُورِ الضَّواحِكِ        وأَهوَى عِنَاقَ البِيضِ لَوْنِ السَّنَابِكِ”      (مَجنُون لَيْلَى)

(6): دِيوان “أَضَعتُهُ العُمرَ”، ص 35.

(7): دِيوان “أَضَعتُهُ العُمرَ”، ص 57.

(8): “أَخَذَ النَّاسُ بِقِشرٍ حَولَهُم     وفَهِمتُ العَيشَ أَخذًا بِاللُّبابِ”      (دِيوان “أَضَعتُهُ العُمرَ”، ص 33)

(9): مُسَيْلِمَة هُوَ رَجُلٌ ادَّعَى النُّبُوَّة فِي آخِرِ زَمَنِ النَّبِيِّ العَرَبِيِّ الكَرِيمِ مُحَمَّد.

اترك رد