“عندما ضجر التنّين”… أدب حقيقي يطرح أسئلة لاهوتية

د. أسعد الياس قطّان

(أديب وروائي- لبنان)

مؤلّف «عندما ضجر التنّين» هو، في المقام الأوّل، لاهوتيّ ودارس للاهوت. واللاهوت علم من علوم الإنسان يستوجب اطّلاعاً واسعاً على التاريخ ومناهج تأويل النصوص وإلماماً بعدد من اللغات القديمة والحيّة. ليس صعباً على القارئ أن يتلمّس حضور بعض الأفكار والأسئلة اللاهوتيّة في غير نصٍّ من نصوص الكتاب. فالإنسان لا يخرج من جلده. ولكنّ حكايات هذا السفر تريد أن تكون أدباً حقيقيّاً، لا تعبيراً «أدبيّاً» عن أفكار لاهوتيّة سابقة ومستقلّة في ذاتها.

طبعاً، ثمّة معالم مشتركة بين الكتابة العلميّة والكتابة الأدبيّة. فكلاهما عمليّة إبداعيّة تفترض المساءلة النقديّة والتعديل والتصحيح وإعادة الكتابة. كما أنّ كلاهما يتطلّب قراءةً مكثّفةً ومعرفةً دقيقةً بما وضعه الذين سبقونا من مصنّفات وأعمال مكتوبة. ولكنّ الانتقال من عالم الكتابة اللاهوتيّة ذات الطابع العلميّ إلى عالم الكتابة الأدبيّة لم يكن مسألةً سهلة. فالكتابة الأدبيّة أوسع أفقاً، لكونها تتوخّى نقل الإنسان في أبعاده كلّها، وتلقي البال إلى مجمل تفاصيل حياته اليوميّة، فيما الكتابة اللاهوتيّة ميّالة إلى تعاطي الأفكار العموميّة بقطع النظر عن الحالات الخاصّة. لذا، هي كثيراً ما تستنجد بالفلسفة بوصفها تفكّراً في القضايا الكبرى التي تشغل الإنسان على نحو نظريّ مجرّد. فضلاً عن ذلك، الكتابة العلميّة غالباً ما تنحصر في التعامل مع جزئيّات الخبرة الإنسانيّة، وهذا مشروع طبعاً، لكونها تتفحّص جوانب محدّدة من هذه الخبرة، ولا تتبسّط في أخرى. فالتاريخ، مثلاً، مطالب بأن يحدّد مادّته. ولذا، هو إمّا تاريخ سياسيّ وإمّا اقتصاديّ وإمّا اجتماعيّ أو يعنى بالأفكار أو بالعادات أو بالفنّ إلخ. وعلم النفس يتحرّى، في العادة، ما يعتمل في طبقات النفس الإنسانيّة، ولا يهتمّ بالتاريخ أو بالاجتماع إلا على قدر تأثيرهما في ما يصطخب في هذه النفس من توتّرات. أمّا الكتابة الأدبيّة، فتأخذ في الاعتبار كلّيّة التجربة الإنسانيّة رغم أنّه لا سبيل لها إلى ذلك سوى الانطلاق من الإنسان الفرد بوصفه مادّة الكتابة الأدبيّة بامتياز. يضاف إلى ذلك أنّ الكتابة الأدبيّة مفتوحة أكثر من الكتابة العلميّة من حيث خواتيمها. فمعظم الأدباء يختبرون كيف أنّ تجربة الكتابة، ولا سيّما رسم الشخصيّات، تأخذهم إلى عوالم ما كانوا يتوقّعونها حين باشروا عمليّة الكتابة. الملاحظة الأخيرة هي أنّ كلاًّ من الكتابة العلميّة والكتابة الأدبيّة يستخدم نصوصاً سابقةً ويبني عليها. نحن، هنا، أمام ظاهرة نشير إليها بلفظ «تناصّ» (intertextualité). ولكن فيما الكاتب العلميّ ملزم بالكشف عن مصادره، لئلاّ يُتّهم بسرقة الأفكار (plagiat)، يستطيع الكاتب الأدبيّ أن يسمح لنفسه بالتكتّم على المادّة الأدبيّة التي استند إليها، سواء كانت نصوصاً مكتوبةً أو مرويّاتٍ شفهيّة، تاركاً للقارئ مهمّة تحديدها، ذلك بأنّ العمليّة الأدبيّة الإبداعيّة تتحمّل، لا بل تحبّذ، إعادة إنتاج مادّة سابقة في سياقات وكوكبات معنويّة جديدة.

بالنسبة إليّ، لقد اقتضت عمليّة الانتقال من الكتابة اللاهوتيّة ذات الطابع العلميّ إلى الكتابة الأدبيّة الإحجامَ عن اعتبار الخبرة البشريّة الفرديّة «تعبيراً»، أو «مثلاً»، عن خبرة إنسانيّة عامّة تتجاوز الأفراد. واستلزمت العزوف عن النظر إلى الكتابة الأدبيّة بوصفها مجرّد مكان للإفصاح عن أفكار كبرى ذات طابع فلسفيّ.كما استوجبت الاهتمام بالمعالم الفرديّة والتفاصيل الصغيرة بوصفها جزءاً لا يتجزّأ من الحبكة الأدبيّة. ولكنّ الاختلافات الجذريّة بين نمطَي الكتابة هذين لا تنفي التقاطع. فالإلمام، مثلاً، ببعض جوانب التاريخ الكنسيّ والقصص الدينيّ كان عندي واحدةً من القواعد التي ارتكزت عليها لعبة الكتابة الأدبيّة. ويتّضح هذا، على سبيل المثال، في قصص مثل «سفر الرؤيا» و«عندما ضجر التنّين». في المقابل، صار إنتاجي اللاهوتيّ ذو الطابع العلميّ الصرف أكثر تطعّماً بالأدب منذ إقبالي على الكتابة الأدبيّة.

القصص المتضمّنة في «عندما ضجر التنّين» مرفوعة إلى أساتذة أربعة تتلمذت عليهم خلال المرحلة المتوسّطة والثانويّة في مدرسة الحكمة في بيروت بين العامين 1980 و1985. وهم، بحسب التسلسل التاريخيّ، إميل كبا وفرنسوا روحانا وأنطوان حلو وهنري كريمونا. في ذلك الزمن، كانت قراءة جبران خليل جبران طقساً من طقوس مدرسة الحكمة، ربّما لأنّ جبراناً نفسه كان حكمويّاً، وكان إميل كبا، أستاذ اللغة العربيّة وآدابها، رئيس كهنة هذا الطقس بلا منازع. فرنسوا روحانا، أستاذ اللغة الفرنسيّة وآدابها، كان قادراً على شرح أيّ درس من دروس القواعد في ثلاث دقائق ينصرف بعدها إلى ثقافة من نوع آخر، إلى الأخذ بيدنا في دهليز الميثولوجيا اليونانيّة والثقافة الكلاسيكيّة عموماً. أمّا أنطوان حلو، أستاذ الأدب الفرنسيّ، فلقد حرص على أن يقرأ معنا أندروماك راسين، بيتاً بيتاً، طوال عشر أسابيع، واعتبر أن أفضل مقدّمة لقراءة بعض قصائد ديوان شارل بودلير «أزهار الشرّ» (Les fleurs du mal) هي شرح نظريّة المثل لدى أفلاطون على مدى أسبوع كامل. الجدير بالذكر أنّ زملائي في جامعة مونستر ينذهلون اليوم حين أخبرهم هذه الأشياء. أخيراً، هنري كريمونا، أستاذ الفلسفة، كان لا يتوانى عن أن يصف نفسه بأنّه «مؤمن كبير» حتّى حين يعرض بشغف نظريّة المعرفة لدى إيمانويل كانط. لهؤلاء الأربعة منّي جزيل الامتنان للثقافة التي نهلتها من معينهم.

قبل بضع من السنين، سرق السرطان من وسطنا عازفة القانون الأولى في لبنان إيمان حمصي، وهي بعد في ذروة إبداعها وتألّقها. الذين عرفوها عن كثب كانوا يدركون معنى الالتباس الغريب في شخصيّتها. فعصبيّتها، التي لم تكن تخفى على أحد، كانت تتفجّر في مقطوعات موسيقيّة تضجّ بالفرح. لهذه التي مضت عنّا قبل الأوان موسيقى تمكث معنا رغم الرحيل، وتضفي معنىً على حياتنا. ألا تكمن عبقريّة الموسيقى في أنّها تسبغ على حياتنا الوقتيّة معنىً يتعذّر استمداده من مقولات هذا العالم؟ لقد وُضعت حكايات «عندما ضجر التنّين» تحيّةً لعازفة القانون وفي ذكراها.

******

(*) ألقيت في ندوة حول كتاب “عندما ضجر التنّين” إعداد الدكتور أسعد قطّان، ضمن المهرجان اللبناني للكتاب في شهر مارس 2017.

 

اترك رد