بسكال لحود
( باحثة في فلسفة العلوم- لبنان)
في الذكرى المئة لولادة الفيلسوف كمال يوسف الحاج تحتفل جامعات لبنانية وعربية به وبأعماله. وهو كان اغتيل في 2 نيسان (أبريل) 1976 في مطلع الحرب اللبنانية.
إنَّ أوَّل ما يستوقفنا، في تقصِّينا للسياقات التي تناول فيها كمال يوسف الحاج (1917-1976) مسألة الحدود بين العلم والأدب والفلسفة والإيمان، هو التباس كبير محيط بها: فالحاج الذي قرَّر، بعد بداية أدبيَّة، أن يمشي «الخطى الفلسفيَّة التي كُتبت علي(ه)»، عاد و «تنبَّأ» بأنه سوف ينتهي أديبًا على غرار التصوُّف، علمًا أنَّه يعتبر التطوُّر الطبيعي يقضي بالتفلسف بعد التأدُّب، لا العكس.
ولا يُستثنى موقف الحاج من العلم من هذين المدِّ والجزر اللذين يطبعان، عنده، العلاقة بين الفلسفة والأدب، وبين الفلسفة والإيمان. فبعدما افتتح مسيرته الفكريَّة بعلمويَّة متطرِّفة متأهِّبة لاستعمار مدارات الحقيقة والمعنى كلِّها، عاد وتساءل: «ولكن إلى أيِّ حدٍّ يستطيع (العلم) أن يذهب؟» وما قيمته، طالما «كلُّ مكاسب العلم، وهي من الأرض، إلى الأرض تعود»؟
فكيف بالإمكان قراءة هذه التوتُّرات الحدوديَّة بين أقاليم الفلسفة والأدب والعلم والدين عند الحاج؟ وما تحديد الفلسفة الذي يُستقرأ من نتاج يشدِّد على عقلانيَّتها في مواجهة الأدب والدين، وعلى قلبانيَّتها في مواجهة العلم، ويرى فيها، هي نفسها، عِلمًا في بعض الأحيان؟ أوَ يُستتنتج من كلِّ ذاك أنَّ ما أراده الحاج «فلسفة» لم يكن، في السياقات المكرَّسة لترسيم الحدود على الأقل، سوى «أيديولوجيا مهنيَّة» تحرِّك حدودها وفق الخصم المنافس لها؟ أم ترى «مائيَّة» الحدود تدلُّنا إلى خاصِّيَّة أساسيَّة عنده هي زهده بوهم الموضوعيَّة المطلقة واعتباره الفلسفة – على غرار الأدب – «تجسيدًا أو امتدادًا لآلام أضرمتها الحياة في جنبات نفس (الفيلسوف) القلقة المتسائلة»، فيغدو نزوح الحدود إذّاك تأريخًا لمسيرته الوجوديَّة الشخصيَّة؟
بداية علمويَّة
ينعقد البحث حول هذه الإشكاليّات، إشكاليّات حركة الحدود التي نحاول قراءتها انطلاقًا من فرضيَّتين تأويليَّتين مختلفتين، تمهيدًا لفهم إستراتيجيات الفصل والوصل بين أثينا وأورشليم عند كمال الحاج.
تشي بعض نصوص الحاج الأولى بثقة عارمة بقدرات العلم، تبلغ حدَّ اعتباره المعرفة الوحيدة الممكنة. فبعد احتفائه بإنجازات العلوم الطبيعيَّة في مجالات المادَّة الجامدة والحيَّة، في مقالة له بعنوان «ما هي قيمة العلم؟» عائدة لعام 1940، نجده محتفلاً بتأهُّب المنهج التجريبيِّ لخوض غمار النفس الإنسانيَّة، ولجعل الأخلاق نفسها موضوع استقصاء علميٍّ: «هل وقف العلم عند حدود الجسم الإنسانيِّ؟ كلاّ، بل أراد أكثر من ذلك، فإذا به يدرس الأخلاق والنفس، واضعًا لهما اسمي علم الأخلاق وعلم النفس، وأراد مزج هذين الفرعين بالعلم الاختباريِّ، فقاسهما كما يقيس المادَّة، ومن ذلك نشأ علم السيكولوجية القياسيَّة (…) وهكذا دواليك حتى طغت موجة العلم على كلِّ اختلاجات الفكر فلا يطرق الإنسان بابًا إلا متذرِّعًا به». ويتابع، بعد انتقاده الفلسفات التي تشكِّك في قدرات العلم: «إنَّ جحد حقيقة العلوم الطبيعيَّة طيش صبيانيٌّ ملؤه التحيُّز والغرور، ولا يسعنا إلّا الإقرار بفضل العلم، وبقوَّة العقل في ميدان المادَّة. فهل يصل المنطق العقليُّ يومًا إلى كشف الستار عن حقيقة الروح، فيريح فينا القلق النفسانيَّ، ويجعلنا أقوياء من داخلنا كما نحن أقوياء في الطبيعة الخارجيَّة؟»
من اللافت هنا عدم تمييز الحاج بين العلم والعقل، وتبنِّيه الضمنيُّ لأطروحة وحدة العلم (l’unité de la science) – التي نادى بها نورات، وطوَّرها من بعده بوتنام وأوبنهايم – بحيث لا يجد أيَّة ضرورة لتعديل مناهج العلم أو مسلَّماته المعياريَّة عند انتقاله من دراسة المادَّة إلى دراسة الإنسان، نفسًا ومجتمعًا. كما يبدو الحاج مسلِّمًا بالمقاربة الطبيعانيَّة للأخلاق (le naturalisme moral) فلا يتوقَّف عند ما بات يعرف بقانون هيوم أو استحالة استنتاج ما يجب أن يكون – أي موضوع الأخلاقيّات المعياريَّة – ممّا هو، أي الأخلاقيّات الوصفيَّة.
وها هو يحتفي بأثر العلوم في المجتمع، في كتابه بين الجوهر والوجود (الصادر سنة 1971): «الواقع أنَّ الفرد لم يندمج اندماجًا صحيحًا في مجتمعه مثلما يفعل اليوم (…) السبب؟ الاكتشافات العلميَّة. لقد أشركت الفرد في مصالح الجميع عبر تقليص المسافات. وهكذا تعانقت وحدات الأرض، فأزيلت الحدود بين الأفراد أوَّلا، وبين الشعوب ثانيًا، لينصهر الكلُّ في مفهوم إنسانيٍّ واحد من دون أن يتعطَّل الشعور القوميُّ». وفي المؤلَّف نفسه، يتحدَّث الحاج عن علاقة تلازم بين العلم والديموقراطيَّة: «المقصود هنا بالديموقراطيَّة المساواة، من حيث الجوهر، بين جميع الناس. تلك هي العدالة التي يكون الناس إخوة في أحضانها. وكم ساهم العلم في إيجاد هذه النحن، وإيقاظها، لأنَّه أعان المجتمع الإنسانيَّ، باكتشافه نواميس الطبيعة، على تحقيق أهداف العدالة! إنَّ التقارب قائم بين الجبريَّة في الطبيعة والمساواة في المجتمع. فالناموس جوهر مشترك بين الأشياء، والنحن جوهر مشترك بين الناس. ونسبة الناموس إلى الشيء في الطبيعة، كنسبة القانون إلى الإنسان في المجتمع. لذا نجد صلة رحم قويَّة بين العلم والديموقراطيَّة».
العلم ولكن…
لكنَّ هذه الحماسة للعلم سوف تشهد، عنده، إعادة نظر تدريجيَّة، وذلك على أكثرَ من جبهة:
أ- يستوقف المتقصِّي لمواقف الحاج من العلم تراجعُ حماسته لأطروحات الوضعيَّة المنطقيَّة، ليعترف أنَّ العلوم الإنسانيَّة لم تنجح بعد في تكميم موضوعاتها تكميمًا تامًّا ولا في تطبيق السببيَّة تطبيقًا صارمًا – وهُما، أي التكميم والجبريَّة، معيارا العلميَّة الأساسيّان عنده. من هنا مراجعته، في موجز الفلسفة مثلاً، ادِّعاءات العلمويَّة، وقوله: «بين أن نقول إنَّ المعارف الإنسانيَّة هي في سبيل العلم، وأن نقول إنَّ هذه المعارف أصبحت علمًا صحيحًا، هناك فرق كبير للغاية. إنَّ تبنِّي علم النفس الطريقة العلميِّة، واستعماله ألفاظًا بربريَّة، توهم أنَّها علميَّة، لا يعني أنَّ علم النفس قد صار – كالرياضيّات والفيزياء والكيمياء – ذا نواميس جبريَّة محكمة»، ويتابع مطبِّقًا المنطق عينه على ما يسمّى علم الأخلاق، مبيِّنًا أنَّه يبقى مرتبطًا بمواقف ميتافيزيقيَّة غير قابلة للردِّ إلى معطيات وضعيَّة.
ويلفت هنا التناظر المحكم بين المستلِّ الذي أوردناه أعلاه من «ما هي قيمة العلم؟»، والمقطع الذي نشير إليه من موجز الفلسفة، إذ يستخدم الحاج الحجَّة نفسها والمثلين عينهما، عنيت إمكانيَّة تطبيق المنهج التجريبيِّ في علم النفس وعلم الأخلاق، في المستلِّ الأوَّل، للتدليل على زخم العلم وقدرته، وفي الثاني، للتدليل على محدوديَّته وزيف ادِّعاءاته. لكأنِّي به يردُّ على العلمويِّ الذي كانَهُ، حرفًا بحرف. أمّا على صعيد التمييز الهيوميِّ بين ما هو وما يجب أن يكون، فبعد أن تنكَّر له الحاج في بداياته التي ذكرنا، عاد وجعل منه أبرز الحدود التي يجدر بالعقل العلميِّ التوقُّف عندها إذا ما أراد أن يبقى علمًا. نستدلُّ على ذلك، على سبيل المثال لا الحصر، بهذا المستلِّ من محاضرته «المسيح في وجه الإلحاد المعاصر» (العائدة لعام 1969)، حيث يقول: «المادَّة كائنة كما الشيء يكون لا كما يجب عليه أن يكون (…) العلم يستطيع أن يصفها لنا في واقع كائنها أو في كائن واقعها. إلا أنَّ العلم لا يستطيع أن يقول لنا ما إذا كان يجب على السكِّينة أن تكون أو ألاّ تكون. (…)».
ب- المأخذ الثاني يعيب على العلم عجزه عن الإجابة عن «ليشيّات» الوجود الكبرى وأسئلة الغاية والمعنى، ومنها معضلة الله. في مقالة له بعنوان «الله» (1957) ، يقول: «العلوم حتّى في أوج كمالها لا يمكنها أن تعالج معضلة الله. ونحن نؤكِّد أنَّ العلم لم يستطع، في يوم من الأيّام، أن يثبت غياب العلَّة الأولى». وفي «العذراء ولبنان»، وهو نصٌّ عائد لعام 1973، يكرِّر الموقف نفسه: «العلم لا يملك برهنة على وجود الله (…) أيضًا العلم لا يملك برهنة على عدم وجود الله». لذلك، يقول: «أنا لست ضدَّ العلم. حاشا، ولكن إلى أيِّ حدٍّ يستطيع أن يذهب؟ هو يعلم الوسائل فقط، لا الغايات. يعلم الظواهر، لا البواطن. يعلم كيف يحصل الشيء، لا لماذا يحصل الشيء».
ج- مأخذ الحاج الثالث – والترتيب لي – على العلم، يستهدف فشله في تحقيق وعود السعادة والسلام التي قطعها أو قُطعت باسمه، ولا سيَّما فشله في استئصال الموت. يتكرَّر التشديد على هذا الإخفاق وعلى ما يسمِّيه الحاج «خيبة الإنسان بعد اعتقاده أنَّ الخيرات ستدفق عليه من خزائن العلم، فلم يندفق عليه غير الويلات». عنده، إنَّ العلم «فشل في الدنويّات، وفشل في الأخرويّات. ما استطاع أن ينظِّم العالم ويعطي الجنس البشريَّ السعادة المرجوَّة ها هنا، ولا استطاع أن ينتشل من خاصرتنا شوكة الموت».
د- المأخذ الرابع، وهو الأكثر راديكاليَّة، لا يطاول العلم حصرًا بل المعرفة رمَّة، إذ يبيِّن هامشيَّة إشكاليَّة المعرفة بالمقارنة بالإشكاليَّة الأخلاقيَّة. مع ذلك، يبقى العلم المرجعيَّة المعرفيَّة القصوى، ولا منافس له على أرض المعرفة. يقول: «العلم هو آخر ما يتمكَّن العقل من أن يتذرَّع به للتدليل والتبيين. العلم ثابت لا نستطيع أن نشكَّ فيه». وبعد، بعدما كان كلُّ تشكيك فلسفيٍّ بقدرات العلم طيشًا صبيانيًّا مدفوعًا بالغرور والتحيُّز، يتيح تضييق الحاج «الثاني» قدرات العلم المعرفيَّة والأخلاقيَّة، الإبقاء على حيِّز للفلسفة، هو تحديدًا حيِّز الأسئلة الكبرى التي لا يطاولها العلم.
الأدب أو البداية الأخرى
هذا في ما يخصُّ الطريق الذي سلكه الحاج من بداياته العلمويَّة، وصولاً إلى رسم حدود العلم القصوى، تيك التي تفصل الكيفيّات عن الماهيّات واللِماذات. عند هذه الأخيرة، «يتكسَّر شموخ العلم» وتبدأ المغامرة الفلسفيَّة.
إلاّ أنَّ للحاج بداية أخرى، قادته إلى ترسيم حدود أخرى، ليست أقلَّ أهمِّيَّة بالنسبة إلى إشكاليَّتنا، هي تلك التي ينبغي أن تفصل بين الأدب والفلسفة. والحال، فإنَّ دراسته الأكاديميَّة تمحورت حول الأدب بداية، فإجازته الجامعيَّة كانت إجازة في الأدب، وأوَّل ما سحره عند برغسون، الذي كان أحد مداخله إلى الفلسفة، هو رجولته اللغوية تحديدًا. «إنَّ الذي شدني عند برغسون، أوَّل بدء، فسحرني للغاية وأناخني، يقول، هو رجولة له في القلم (…) غرَّتني رجولة له في القلم. وفحولته. فاندفعت أترجم»، هذا ما يرويه لنا في مدخل ذاتيٍّ جعله لـموجز الفلسفة اللبنانيَّة. وكان قد توسَّع في شرح هذه البداية في رسالته إلى مؤسِّس الندوة اللبنانيَّة ميشال الأسمر، حيث يقول: «سحرني طلَّسم الكلمة فتأدَّبت. ورغبت في جودة اللفظ، ونزاهته، وكثرة طلاوته، ومائيَّته، كارهًا الترهُّل في الكلام المضطرب». إلّا أنَّه أدرك، بعد هذه البداية، أنَّه فيلسوف.
وسيعتبر مسيرته هذه من الأدب إلى الفلسفة ترسيمة عامَّة تفسِّر التطوُّر الثقافيَّ الطبيعيَّ، فرديًّا ومجتمعيًّا. يقول في الموجز: «سنِّة التدرُّج الطبيعيِّ تقضي اليوم بأن نتفلسف بعد التأدُّب».
****
(* )مقطع من دراسة طويلة
(*) جريدة الحياة- الاثنين 3 أبريل 2017