حسيبـــــــة طاهر
(أديبة جزائرية مقيمة في كيبك)
قبل أن أتعرف على “روزآلي” لم أكن أظن أن الأميركيين مثلنا يهتمون بالإنجاب لدرجة الهوس، كنت مديرة روضة أطفال عندما جاءتني روزالي بطفل في الثالثة من العمر، وأنا أملأ ملفه الصحي عرفت أنه مصاب بضيق التنفس المزمن “آسثم” وبالحساسية الحادة على كل البروتينات الحيوانية، لدرجة أنه قد يموت لمجرد شم رائحة البيض أو السمك.
كانت روزآلي بيضاء كالثلج الكندي وبعينين زرقاويين صافيتين كسماء يوم صيفي قائظ ، أما “ماثيو” فكان بملامح مختلفة تماماً عن أمه، ففهمت أنه ثمرة زواج مختلط، لكن هو كان يحمل لقب أمه يعني من الواضح أن أباه مجهول أو رفض الاعتراف به.
كانت روزآلي مستعدة لسرد قصتها دون سؤال، فسرد الهموم يخفف وطأتها وثقلها عنا .
قالت روزآلي: “كنت الابنة الوحيدة المدللة لرجل ميليونير، ومع ذلك كنت أحب تخصصي الذي تخرجت به وهو السياحة والفنون، فتوظّفت متعهدة حفلات وأصبحت ألتقي بالعديد من الفنانين من كل بقاع العالم، إلى أن تعرفت على “محمد”، شاب مغربي مطرب في فرقة شعبية مغربية، توطدت علاقتنا وطلبني للزواج، وهنا اصطدمت برفض عائلتي خصوصا أبي ، الذي هددني بحرماني من الميراث ووهب كل ثروته لإحدى الجمعيات الخيرية ، لكني لم أكن يوماً أقدس المال وتلك الحياة الأرستقراطية المبرمجة والباردة ، فلحقت بمحمد إلى المغرب وتزوجته هناك،عشت معه سنتين كاملتين عرفت فيهما الفقر بأقصى حد لقسوته. أصبحت مسلمة مجلببة بالأسود،عند الخروج أرتدي جلابية سوداء من دون أن أنزع الفستان الذي كنت أرتديه،عشت في بيت مليء بالسلفات والأطفال ….. وأكثرما قرفت منه أكل رأس الخروف وقوائمه، إذا كنا نحن نقرف من أكل الصيني للضفادع والثعابين ولعاب الطيور المجفف… فهناك من يقرف منا لأكلنا رأس الماشية.
وكم كان يضايقني قدوم الضيوف من دون موعد أو اذن، وكنت أرى أهل الدار وهم يضحكون ويرحبون بالضيوف ويزفرون ويلعنونهم في المطبخ…. ولن أحدثك عن فزعي من أصوات الأذان وقت الفجر إذ تتداخل صرخات المؤدنين فأقوم فزعة متسائلة هل نفخ في الصور؟؟
ثم يزول الغمام عن ذاكرتي وأستوعب أنني “بفاس” ولست بـ “أوتاوا”…
المهم، لم أتمكن من مواصلة العيش بالمغرب فبمجرد حصولي على وثائق جمع الشمل العائلي “باغيناج” حملت زوجي وعدت إلى أوتاوا العاصمة الكندية، عندها فوجئت بأن العائلة لم تزل غاضبة علي ورفضت استقبالي بل طردتني شر طرد ة.
وما زاد من حنقهم علي هو ارتدائي الجلباب والخمار، إذ قال لي أبي : ذهبتِ كزنبقة وعدتِ لي مكفنة بالأسود وسنتي زواج، ولن تنجبي حتى مجرد طفل من ذلك العربي الأحمق آكل الرؤوس و القوائم ….،
تشردت وزوجي بين الشقق المفروشة ومراكز الإيواء للمشردين … لكن جدتي رأفت بحالي فأعطتني مفتاح شقتها وسيارتها، إذ ما عادت بحاجة لهما بما أنها تقيم في دار للمسنين. يفضل الكنديون والأميركيون الإقامة في دور العجزة لعقد صداقات وعلاقات مع أناس من سنهم.
ظننت أن الحياة قد ابتسمت لي أخيرا، لكن عادت الهموم عبر بحثنا عن عمل فزوجي لا يجيد الفرنسية ولا الإنكليزية،وأنا كلما تقدمت لمقابلة وظيفة أرفض لأجل حجابي، لأن مجال تخصصي هو السياحة والفنون، وظيفة تتطلب الأناقة والتجمل … ،عندما يئست قررت أن أنزع الحجاب وعدت كما كنت روزالي الأنيقة وحصلت بكل يسر على وظيفة سكرتيرة بفندق …
ولم تطل المدة وتوفيت جدتي المسكينة وعاد والدي للضغط علي للطلاق من زوجي أو ترك الشقة والسيارة اللتين أصبحتا ملكه بموت أمه … لكني طبعا رفضت ليس فقط لحبي لزوجي ووفائي له،وإنما أيضا كرها للمساومات المادية … وعدت للتشتت من جديد في الشقق المفروشة ….
في أحد الأيام أرسل أبي في طلبي لكني رفضت الذهاب ظنا مني أنه سيساومني مجددا، لكنه أعاد في طلبي قائلا إن أمي تحتضر ، طلبت سيارة أجرة وأنطلقت إلى بيتنا الكائن بجزيرة خارج المدينة، طول الطريق كنت أبكي وأدعو أن أراها قبل ان تموت، وبدأت أرسم إشارة الصليب لاشعورياً، ثم تذكرت أني أصبحت مسلمة … يا للحيرة، من سأدعو الله أم الرب يسوع ؟؟
ثم دعوت قوة ميثافيزيقية لمساعدتي إذ لم أعد أهتم بتسميتها فهذه القوة العظيمة روح والأرواح لا تحتاج اسما …ً
وصلت أمام فللتنا التوأم بنايات من منزلين متلاصقين متشابهين تماما مع العلم أن المنازل الفخمة هنا لا تزيد عن طابقين وقبو.
دفعت أجر السائق ببطاقة ائتمان إذ لم تكن معي سيولة، ودخلت مهرولة. اصطدمت بالجنائني المعتوه “سيمون”، وسيمون شاب يتيم معتوه أمه امرأة فليبينية كانت خادمة غير شرعية لدى عائلتي، أنجبته من عشيق مجهول ثم توفيت، كفله والدي والآن هو يعيش في القبو ومكلف بصيانة الحديقة … ما أغباني لمَ أطيل الحديث عنه ؟؟
آه تذكرت لأني سألته عن حالة أمي فلم أفهم شيئا من تأتآته، فأجابتني الخادمة “ناعومي” أن أمي بنيويورك مند أسبوع لحضور حفل لعرض الأزياء، وقد اتصلت صباحا وهي بخير. فهمت المؤامرة لكن اضطررت للدخول لأن التاكسي رحل و هاتفي الخلوي أفلست بطاريته، إستقبلني أبي منشرحاً على غير عادته قائلا إنه سعيد بتخلصي من تلك الخيمة التعيسة التي كانت تلفني، وسيكون أسعد لو تخلصت من آكل الرؤوس، ولكن أمام موقفي الذي لم يتزحزح قال لي
على الأقل أنجبي ولدا لمَ لم تفعلي أم تراه عاجزاً عن الإنجاب كعجزه عن العمل؟؟
قلت: يا أبي قد زرنا أخصائيين عديدين وأكدوا أنه سليم وأنا أيضاً، لكن بعض الأزواج يتعدر أن ينجبوا معا …
تهلل وجه أبي وقال: هاهي السماء أيضا لم تبارك هذا الزواج المشؤوم، فلستما متوافقين لا جسدياً ولا ثقافياً ولا عرقياً ولا اجتماعياً….
قاطعته: لكننا متوافقان روحياً وهذا الأهم .
قال: كلمتي الأخيرة إما أن تنجبا ولدا ولو بالتلقيح الاصطناعي، وإذا كان غير ممكن أتركيه وارتبطي بغيره وإلا … وأعطاني ورقة، كانت تنازلا منه عن كل ثروته من الفيللا والجزيرة والعمارات والسيارات والطائرة و….. لمنظمة رعاية الأطفال المصابين بالسرطان … ربما بسبب وفاة أخي بالسرطان وهو في السادسة من عمره…. تركت الورقة واتجهت إلى الهاتف، طلبت سيارة أجرة واتجهت صوب الباب …قال أبي: لن أمنحك أكثر من ستة أشهر حتى يصبح هذا التنازل موثقا وللأبد ….
وصلت البيت سعيدة فخورة بانتصاري على المادة، فلن أرضخ لابتزاز أبي أبدا … سردت على زوجي ما حدث فتجهم وجهه وقال: كنت أظن أن معاناتنا مؤقتة ستزول بموت أبيك وحصولك على نصيبك من الإرث، لكن يبدوا أن لا طائل من صبري ربما الأحسن لنا أن نفترق، سأعود إلأآ المغرب وأعود لالتقاط خبزي مع الفرقة …
صدمت صدمة لم أصدمها في حياتي … أدركت أنه يريد المال لا أنا، صفقت الباب وخرجت لاأدري إلى أين …
فكرت وفكرت … أعلم أن من يسمع قصتي سيكره ضعفي وخنوعي إذ كان يجب أن أتركه فورا لكنني لم أستطع لأني كنت أحبه من جهة ولم أكن أتقبل أن أهزم حتى أمام أبي ، قضيت الليلة في بيتنا هناك وعدت إلى زوجي ألاطفه وأطمئنه بأن أمي لن تسمح له بارتكاب حماقة كهذه … ثم حتى وإن وهب فلن يحرم أمي من نصيبها هي لن تتخلى عنا، بصراحة كنت أكذب فأمي تعشق المال والملابس الغالية والعطور ومراكز البرونزاج وعيادات التجميل بقدر ما تكره آكل الرؤوس زوجي، فبابها مغلق لا داعي لطرقه ….
مضت أسابيع كئيبة …ثم أصبت بوعكة واتجهت للطبيب فطلب مني تحليلا … فإذا ما شككت به يؤكد، أنا حامل أجل حامل في عشرين يوما… طار زوجي فرحا أكيد لأن الثروة لن تطير، وطار أبي فرحا بالوريث وجاءني بشرط جديد الإسسسسسسم ، لن تسميه إسما عربيا فإن كان ولدا سأسميه “ماثيو” وإن كانت بنتا سميتها “بردجي”.
آآآآآه من أبي !!! ماتيو وفهمت إسم كاثوليكي نكاية في الإسلام وماذا عن بردجيت ؟؟
إنها غراميات أبي إذ كان يعشق الممثلة “بريدجيت باردو”، وكان يريد تسميتي “بريدجيت” ولكن أمي رفضت وسمتني “روزآلي” على إسم والدتها… أنجبت طفلي وأسميته ماثيو كما رغب أبي، ولم يعارض زوجي لأن المال يسمح بمرور كل شيء .. وانتهى غضب أبي و تصادق مع زوجي على مضض وأصبح كالمجنون لا يحب أن يقترب أحد من الطفل خصوصا الخدم، ماعدا المربية الخاصة ، وفي أحد الأيام كان ماتيو في عربته وأنا أقرأ كتابا وأبي وأمي يتمرجحان… إذ تقدم الجنائني “سيمون” وبدأ يداعب الطفل بحنان عجيب ،هجم عليه أبي كالثمل صارخا:
لو لمسته مرة أخرى سأقطع يدك … ثم التفت إلي وقال أليس هذا هو الحكم الشرعي للسارق في دينك الجديد ؟؟…
قلت: لكنه لن يسرقه هو يريد فقط أن يداعبه
لم يأبه بنا سيمون وأخد الطفل وبدأ يحضنه، شخصت عيناي … أما أبي فصرخ ;
أرأيت الوقح؟؟ أتركه وأغرب من هنا لقد طفح الكيل سأرميك في الشارع يا ابن “بيانكا” …لكن سيمون ازداد تشبثا بالولد وصرخ: إبني ،إإإإإإإإإبني ، القبببببو القببببو ….
أخرج أبي مسدسه وصوّبه نحوه: أتركه وإلا قتلتك .
زاد جنون سيمون وواصل صراخه: لن أتتتتتركه … إبببببني … القققققبو …
وضع أبي أصبعه على الزناد: تبا لك يا ملعون….
فصرخت: لاااااا ، لا تقتله إنه ابنه ابنه أجل إبنه … أنت السبب أنت السبب …
تأتأ أبي: إببببببنه؟؟ يا للهول.
قلت: لماذا لأنه لا يجيد النطق؟؟
ظننت أني باختياري له تدفن جريمتي للأبد، وأضرب ثلاثة عصافرير بحجر واحد، أحقق غريزة الأمومة، أحصل على الثروة،وأحتفظ بالرجل الذي أحب… لكنه نطق أجل مشاعر الأبوة أنطقته….
قال: وهل المشكلة في العته؟؟ يا للهول …: ياللهول… أنجبتِ من أخيك يا روزآلي من أخيكِ يا روزآلي وخرّ على الأرض .