الموضوعي والذاتي في محنة المعارضة السورية

خالد غزال 

(كاتب وباحث- لبنان)

اذا كانت أزمة المعارضة السورية تبدو متضخمة اليوم، فإنها في الواقع بدأت منذ الأشهر الأولى للانتفاضة. وبالعودة إلى تاريخ سورية الحديث في زمن الحكم البعثي، سواء على يد الأب أو الابن، فإن السياسة التي اعتمدها النظام على امتداد عقود، عبر التصفية الكاملة لقوى المعارضة، سواء عبر الإعدامات والاغتيالات والسجن إلى الأبد والمنافي وغيرها من الأساليب، أدت عملياً إلى إبادة القوى المعارضة للنظام. لعل المعضلة الأولى تبدأ من هنا.

فما أن قامت الانتفاضة،  وأظهرت أن عصراً جديداً يمكن أن يبدأ في سورية ينهي ديكتاتورية البعث، حتى بدأت قوى المعارضة، خصوصاً في الخارج وبعض الداخل في لململة نفسها على عجل، وتكوين تكتلات وتجمعات طرحت مطالب سياسية كان على رأسها إسقاط النظام. لم تسلم هذه التكتلات من التناقضات والخلافات، بما يشبه الصراعات التي تنشب عشية استلام السلطة أو خلال السيطرة على البلد. كان هذا الأمر مفهوماً، خصوصاً في الأشهر الأولى للانتفاضة التي اتسمت بطابع سلمي. كان الكثير من قوى المعارضة هذه يفتقد إلى الخبرة السياسية في إدارة الصراع، وهو أمر منطقي بعدما أزيحت القوى الأصلية من الطريق.

لا شك في أن التجمعات التي تبلورت خلال مسار الانتفاضة كانت تنضج شيئاً فشيئاً وتطرح مطالبها بالتغيير الديموقراطي في سورية، وهي حققت حضوراً مهماً لقوى سياسية أمكنها أن تقدم الانتفاضة على حقيقتها. لكن وجود معظمها في الخارج كان يحرم الحراك الشعبي العفوي من إمكان التأطير والتنظيم، في وقت لم يكن بمكنة المعارضة الداخلية القيام بهذه المهمة. استطراداً، يمكن القول إن انعدام قوى التأطير والتنظيم كانت مشكلة الانتفاضات العربية كلها، والمثال المصري أبلغها، حيث أمكن القوى المنظمة الموجودة على الأرض، أي التيارات الدينية، أن تخطف الحراك المليوني، وتجيّره لمصلحتها في الانتخابات النيابية والرئاسية.

لكن المحنة الأكبر للمعارضة السورية بدأت مع عسكرتها، التي قررها بشار الأسد وسيلة لإجهاض الانتفاضة، فساهم في خلق «داعش» وأطلق العنان لتنظيمات إرهابية، واستخدم كل وسائل القتل والتدمير لقمع الحراك الشعبي. ابتداء من هذه المرحلة، ستصبح الغلبة للقوى التي تقاتل على الأرض في الداخل السوري. ترافقت هذه المرحلة مع التدخلات الإقليمية والدولية لتحويل سورية أرض صراعات متبادلة وتصفية حسابات، ما حول الانتفاضة حرباً أهلية حقيقية متداخلة القوى والأهداف. بات الموضوع أكبر بكثير من قدرات قوى المعارضة السلمية الموجودة في الداخل أو الخارج.

إذا كان من كلام على أخطاء قوى المعارضة بعد هذا التحول في مسار الانتفاضة، فهو مراهنتها على قوى الخارج في حسم الصراع وإنهاء حكم بشار الأسد. هذه المراهنة وضعت معظم القوى السياسية رهينة القوى الإقليمية التي تتولى التمويل والتسليح، لكنها في المقابل تهيمن على قرار القوى المعارضة. إن تداخل القضايا وتعقيدات المعضلة السورية يفسران تخبط القوى المعارضة وتصاعد صراعاتها تبعاً لمواقف القوى الدولية والإقليمية التابعة لها. من الجيد أن تصدر مواقف تراجع مسار الانتفاضة ومواقف القوى بما يشبه عملية النقد الذاتي. لكن المؤسف أن هذه المراجعات تبدو متأخرة وغير ذات قيمة عملية بعد أن باتت سورية وجميع القوى فيها، من النظام والتشكيلات الطائفية التابعة له إلى قوى المعارضة بمختلف تجلياتها، رهينة الخارج الدولي والإقليمي المتحكم في الأعمال العسكرية أو السياسية، أي بالقرار السوري كله.

إذا كان ممكنا إيجاد بعض التفسير الموضوعي لحال المعارضة، فما يثير الاشمئزاز هو موقف قوى شيوعية ويسارية عانت الأمرّين من حكم البعث، قتلاً وسجناً، فإذا بها تنضم إلى صفوف النظام، مواقف سياسية وممارسات عملية، تحت حجة أن النظام يحارب الإرهاب الأصولي. إن موقف هذه القوى يعكس إفلاس فكرها السياسي وضحالته وتخلفه. إن موقفها هذا هو تعبير عن أقصى درجات الانحطاط الأخلاقي الممعن في مباركة ممارسات النظام ومجازره.

اترك رد