توثيق شامل ودقيق للأحداث تجاوز فخ الطائفية نحو التأسيس للمستقبل
عندما تتوصل أمة إلى كتابة تاريخها، عندها تصبح دولة، هذه حقيقة مؤكدة تحت أي سماء، وفي بلد الأرز على وجه الخصوص. فهم بطرس ديب ذلك، ما دفعه إلى تنفيذ هذا المشروع»… بهذه الكلمات قدم الأديب اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف (عضو الأكاديمية الفرنسية) للطبعة الجديدة من كتاب «تاريخ لبنان منذ البداية وحتى القرن العشرين» (1008 صفحات من القطع الكبير) الصادر بالفرنسية عن دار نشر فيليب ري ـ باريس، وشاركت في تأليفه مجموعة من الباحثين الأكاديميين بإشراف د. بطرس ديب.
ليس العمل الجماعي مسألة سهلة في حد ذاتها. أن يُكتب تاريخ لبنان بما فيه الأحداث التي شهدها على مر تاريخه، لا سيما الحرب اللبنانية، من قبل باحثين يمثلون الطوائف اللبنانية المختلفة يشكل تحدياً مجنوناً بحد ذاته، إلا أن بطرس ديب وفريق العمل تجاوزوا هذا التحدي، ونتج عن ذلك نص موثق، غني بالمقاربات وتنوع الآراء وتجانس في السرد.
بأسلوب واضح وسهل مؤطر بحب الوطن وحرص على إعطاء رؤية منطقية للأحداث، عمد المؤلفون إلى استخلاص الثوابت في هذا التاريخ وخصوصياته، وقدموا للقارئ مفاتيح تؤهله حل عقد الواقع.
اعتاد بطرس ديب القول إن لبنان، يعيش منذ آلاف السنين على حبل مشدود، مع ذلك ينهض من محنه، مهما كانت مؤلمة، ويتابع البناء والاستمرارية. من هنا تسمح إعادة كتابة تاريخ لبنان منذ عصور ما قبل التاريخ بفهم كيف كان بلد «العسل واللبن»( هكذا لقب لبنان في الكتب القديمة) في الأوقات كافة موئل الحضارات (الفنيقية، اليونانية، الرومانية، العربية، الأوروبية) التي أثرت بقوة في مناطقه المختلفة، فضلا عن تميّزه على مرّ تاريخه، بالانفتاح والليبرالية في معناهما الواسع، الغنى والتنوع في الوحدة ضمن الموزاييك الطائفي اللبناني. وفي الوقت الذي يجتاز فيه لبنان مرحلة مضطربة، يحمل هذا الكتاب رسالة أمل.
مراحل تاريخية
شارك في تأليف الكتاب باحثون لبنانيون وفرنسيون، من بينهم: جورج طعمة الرئيس السابق للجامعة اللبنانية، كمال صليبي أستاذ سابق في الجامعة اللبنانية، منير إسماعيل أستاذ في الجامعة اللبنانية وجامعة القديس يوسف، جان ريشار عميد سابق لكلية الآداب في جامعة ديجون بفرنسا… بإشراف د. بطرس ديب الذي كان مديراً عاماً لرئاسة الجمهورية اللبنانية ورئيساً للجامعة اللبنانية وسفيراً للبنان لدى الفاتيكان واليونسكو وباريس، وقاد فريق البحث إلى أن رأى هذا الكتاب الجماعي الضخم النور، لكنه رحل منذ فترة قبل صدور طبعة جديدة منه.
يتألف الكتاب من مقدمة عامة وأقسام عدة وفصول: يتناول الأول المنشأ التاريخي للبنان، جغرافيته، مياهه، موارده الطبيعية، مناخه، اقتصاده…أي موضعه ضمن بيئته ووسطه الطبيعي. يتحدث الثاني عن الفنيقيين، أول شعب سكن لبنان، في حين يلقي الثالث الأضواء على العهد اليوناني بعد فتح الإسكندر المقدوني، ويتناول الرابع لبنان في عهد الإمبراطورية الرومانية، ويتمحور الخامس حول دراسة الفتح العربي وتشكيل دولة مركزية عربية – إسلامية.
كذلك يتضمن الكتاب فصولاً تتحدث عن لبنان في ظل الأيوبيين، المماليك، الفتح العثماني، الانتداب الفرنسي، الاستقلال لغاية 2006 تاريخ صدور الطبعة الأولى.
نظرة شمولية
قدّم للكتاب د. بطرس ديب موضحاً الخطوط العريضة للمشروع، ومما جاء في كلمته: «لماذا ننشر كتاباَ جديداً عن تاريخ لبنان؟ ألا توجد في المكتبات عشرات الكتب التاريخية عن هذا البلد الجميل؟ الجواب أننا نقدم للمرة الأولى تاريخ لبنان في كليته الشمولية منذ البدايات وحتى اليوم. وعندما ننظر إلى تاريخ لبنان في كليته نلاحظ أنه كان ممراً للفاتحين وملاذاً للمضطهدين الخائفين في آن. لم يكن الموارنة هم السكان الوحيدين لجبل لبنان، إنما لحق بهم الدروز والشيعة أيضاً منذ عهد مبكر. أما المسلمون السنة فقد بقوا في أغلبيتهم من سكان المدن الساحلية وإن يكن بعضهم استقر في الجبل أيضاً. لكن حصلت تطورات بعد الاستقلال أدت إلى اختلاط السكان ببعضهم البعض، لا سيما في المدن، مع الحفاظ على بعض الخصوصيات في مناطق معينة تغلب عليها هذه الطائفة أو تلك.
حول عهد الانتداب الفرنسي على لبنان كتب: «تغطي هذه الفترة بين الحربين العالميتين وتستمر لغاية 1943 تاريخ استقلال لبنان، وفرنسا هي التي شكلت لبنان بحدوده الحالية وفصلته عن سورية كما هو معلوم. في الواقع أن المسلمين لم يتحمسوا لاستقلال لبنان عن سوريا. لماذا؟ لخشيتهم من أن يهيمن عليه الموارنة. يضاف إلى ذلك أن المسلمين كانوا متعلقين عموماً بالوحدة السورية أو العربية على وجه التحديد، ولا يريدون عزل لبنان عن مناخه الطبيعي أو محيطه العربي الواسع. لكن الجنرال غورو حاول طمأنتهم عندما قال لهم: «إذا كنا من أحفاد الصليبيين فإننا أيضاً من أبناء الثورة الفرنسية التي ساوت بين الشعوب ورفعت شعار الحرية والإخاء والمساواة للجميع من دون تمييز، بالتالي لسنا ضد المسلمين، وسوف نحترم جميع الأديان والطوائف ونعاملها على قدم المساواة. فروح التسامح هي التي تشكل جوهر الثورة الفرنسية وكذلك مبادئ التقدم والعدالة الاجتماعية». لكن الكلام شيء والفعل شيء آخر، فالواقع أن الموارنة هيمنوا على لبنان في فترة الانتداب وحتى بعد الاستقلال، ويمكن القول إن هيمنتهم لم تنته إلا بعد الحرب الأهلية (1975-1990)، واتفاق الطائف الذي ساوى بين المسيحيين والمسلمين من حيث توزيع السلطات والمسؤوليات».
توقف د. بطرس ديب عند الأحزاب السياسية اللبنانية أثناء فترة الانتداب معدداً إياها وهي: الحزب الشيوعي، حزب النداء القومي العربي، عصبة العمل القومي، الحزب القومي السوري لأنطون سعادة، حزب الكتائب، حزب النجادة، حزب الكتلة الوطنية والأحزاب الأرمنية.
أما بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية فأكد أن عهد الرئيس فؤاد شهاب (1958-1964) من أهم العهود في تاريخ لبنان الحديث لتميّزه بقوة الشخصية ورجاحة العقل، وقد شهد لبنان في عهده ازدهاراً ولقب بسويسرا الشرق.
أضاف: «موقع لبنان على شاطئ البحر الأبيض المتوسط وإحاطته بالتلال والجبال أضفى عليه سحراً، وجذب السياح منذ خمسينيات القرن الماضي حتى بداية الحرب الأهلية، أي طيلة ربع قرن، كان لبنان خلالها مركز الثقافة العربية ودور النشر والإبداع ولا يزال لغاية الآن».
تابع: «للأسف عمد العرب إلى تصفية حساباتهم الداخلية على أرضه فدمروه، ولم يستعد عافيته عام 1990 إلا بعد جهد جهيد. مهما يكن من أمر فإن الدور الكبير الذي أداه لبنان على الصعيد الثقافي انعكس إيجاباً في أنحاء العالم العربي، وكان السبب في النهضة الحديثة، فضلا عن أن المقموعين من حاملي القلم في البلدان المجاورة كانوا يأتون إليه ليبدعوا في جو من الحرية غير معهود في العالم العربي».
****
(*) جريدة الجريدة