د. هنيبعل كرم
(أديب وشاعر- لبنان)
في دمشق، يطير الحمام، مناديل فرحٍ تلقي على السماء السلام شالاً برائحة الليمون وقاسيون.
في دمشق، لكلّ شيء نكهة خشب بوّابات التاريخ العتيقة، ورائحة الصعتر والسمّاق على جدران الأحياء القديمة.
في دمشق، تصافحك لهجةٌ عجيبةٌ للعراقة والأصالة مجبولةٌ بترياق المحبة.
في دمشق، ينحني القلب على رصيفٍ حجريّ، يلملم ما نثرته عشتروت الحسن من تاجها السماوي.
في دمشق تركض، وتركض بك الأزقّة حافية الأقدام إلى ميسلون، هناك نذور العزّة والكرامة والإباء.
في دمشق سيفٌ، وسيف الدولة ومتنبئ يشحذ الهمم فرساناً وقرطاساً وقوافٍ.
في دمشق، حكاياتٌ تخرج الضوء من قمقمٍ سحري إلى العالم قاسيوناً أشمّ.
في دمشق، رحمٌ تلد أرحاماً للخير، وأتوناً لأحلام العبيد.
في دمشق، حزنٌ لم يعرف العالم له مثيلاً، قوافل من الراحلين بصخبٍ لن يُنسى.
في دمشق، تختار حمامةٌ أن ترتفع إلى السماء، فيسقط في القلب جدار.
في دمشق، كان «أبو صيّاح»! ذلك الآتي من رحم هذه المدينة المباركة، من فرحها، من ألمها، من طيبها، من ناسها، من ترابها، من نوافذها الخشبية، من تراب حدائقها، من أزاهيرها العطرة في كل بيتٍ للضياء هناك.
«أبو صياح»، ذلك الآتي من ذاكرةٍ ضمّدت أوجاعها آلاف المرات، وزيّنت أحياءها برايات الانتصار… آلاف المرّات أيضاً.
«أبا صياح»، لستَ أنتَ الفقيد العزيز الوحيد هناك… ولا الشهيد الوحيد هناك، ولا الحبيب الوحيد هناك لكنك في القلب، وفي الذاكرة، رمز أصالة الحياة، الحياة التي تشبه في بساطتها السكّر على شفتَيّ طفلٍ قهر الجوع بابتسامةٍ.
«أبا صياح»، أنت صوتٌ حلوٌ، مزيجٌ غريبٌ جداً من مآذن وأجراس. على أوتارك الصوتية غفا وطنٌ عزيزٌ، واستفاق شهيداً من أجل وطنٍ عزيز.
كلّ ما في ذاكرة الطفولة أنت ملأته، أنت وكوكبةٌ من الرجال الفنانين المبدعين الصادقين، أنتم الذين غرستم في أرواحنا حقول المواسم للأجيال الآتية.
تغادر، بعد أن صدح صوتك بالحياة لسورية: «تحيا سورية»! كأنّما أردت به أن يكون رمحاً ماضياً يشقّ عتمة هذا الليل الطويل!
يدك… تلك التي جفّت عروقها إلّا من نسغ الكرامة والكبرياء، كم من طريق عبّدت، كم من قلب لامست، كم من أمل رسمت في ليالينا العجاف، وكم كانت بهيةً حين انتصبت، في آخر رسو لك، زاويةً قائمةً للمجد وعنواناً لشبابٍ لا يموت!
*****
(*) جريدة البناء- 9-1-2017