ترجمة “رمية نرد” لمحمد بنيس  رؤية جديدة لتاريخ الشعر الحديث

د. حورية الخمليشي

(أديبة وباحثة وناقدة- المغرب)

قصيدة «رمية نرد» للشاعر ستيفان ملارميه قصيدة استثنائية في كل الشعر العالمي. فقد استطاع ملارميه أن يخلق من لعبة النّرد كوناً ومن مكعّب النرد نظاماً لهذا الكون. إنها من روائع الأعمال الشعرية الكبرى في تاريخ الآداب العالمية. ولرمية نرد ترجماتٌ متعدّدةٌ في لغات مختلفة تركت أثراً كبيراً في الحركة الشعرية العالمية.

رجمةَ محمد بنيس لرمية نرد ملارميه هو مشروعُ شاعرٍ مغربي يدخل ضِمن المشروع العام للثقافة العربية وانفتاحِها على الثقافة الأوروبية. إنه مشروعٌ فكري معرفي في مجهول القصيدة، يستدعي إعادةَ النظر في الثقافة الشعرية العربية ومدى انفتاحها على الثقافة الأوروبية والعالمية لعملٍ يدخل ضمن استراتيجيةِ ثقافةِ التحديث الشعري. وهي ترجمة صادرة عن رغبة شخصية، واختيار حرٍّ في استقلالٍ عن أي سلطةٍ إلا ما استدعته سلطةُ القصيدة. فأبانت عن رؤية جديدة لتاريخ الشعر الحديث. وقد سبق لمحمد بنيس أن ترجم العديد من الأعمال لكل من عبد الكبير الخطيبي وعبد الوهاب المؤدب وجاك آنصي وبرنار نويل وجورج باطاي… وترجمة “رمية نرد” تبقى من المشاريعِ الكبرى التي جاء بها الشاعر بعد خبرة شعرية واسعة في قضايا الشعرِ والترجمةِ، وصراعاتِ الحداثةِ والتحديث. فحظيت باهتمام كبير في الأوساط العربية وغير العربية، وخاصّة في الولايات المتحدة الأمريكية وكندا واليابان.

وليس من السهولة بمكان الانتماء إلى شاعر من وزن ملارميه. فمِن المعهود عن محمد بنيس المنتصرِ للمعرفة وعدم تقديس الثّوابت، خوضُ غمار القضايا الشعرية الكبرى تنظيراً وممارسةً. وقد أوصل القصيدة المغربية والعربية إلى البذخ الشعري بعد أن عَبَرَ بها دُوَلاً وقارّاتٍ ومحطّات. فكانت رفيقة دربه في لغاتٍ عديدةٍ لحوار ثقافاتٍ مختلفةٍ في العالم.

ولنا أن نتساءل لماذا تجاهل العرب ترجمة هذه القصيدة إلى اللغة العربية رغم حضورها القوي في الثقافة الشعرية والكتابية؟ فقد كان ملارميه صاحب ثورة شعرية. فأبجديةُ ملارميه وأبياتُه المتراصّةُ ورسائلُه أثارتِ العديدَ من القضايا في الثقافةِ الشعريةِ. وقصيدة رمية نرد أعادت النّظرَ في مجموعةٍ من المفاهيمِ الشعريةِ السّائدةِ عربياً. فهي ثورة ومغامرة في تاريخ الشعر المعاصر. وهي بداية زمن جديد في كتابة القصيدة وتغيير الرؤيا إلى الشعر والشاعر وخاصة بعد الثورة التي أحدثتها قصيدة النثر وقبل ذلك الشعر الحر.

محمد بنيس

ظهرت قصيدة “رمية نرد” في طبعة عربية بمواصفات مختلفة لما عهدناه في أعمال الشعراء سواء في الطبعة الصادرة عن دار توبقال بالمغرب أو الطبعة الفاخرة الصادرة عن دار إبسلون بباريس والمطبوعة في إيطاليا. وبهذا العمل يحقّق محمد بنيس حلُم ترجمة هذه القصيدة الباذخة. وهي رغبة تولّدت لديه منذ ثلاثين سنة أي في بداية الثمانينات، ساعياً من خلال ذلك إلى أن تفوز العربية برونق وجمال رمية نرد، وأن تفوز رمية نرد بجمال العربية.

وجاءت استضافة “رمية نرد” في العربية تحيّة وتكريماً ووفاأً لشاعرها ملارميه الذي وهب كل حياته للقصيدة وفياً لمعلّمه إدغار ألان بو. ولم يخف محمد بنيس انبهاره بجمال “رمية نرد” في مقدّمة الترجمة التي ضمّها كتاب “صلة وصل مع قصيدة”. فهي عنده قصيدة الجمال والمطلق، وعمل معجز متفرّد له مرتبة الأعمال الكبرى في التاريخ الأدبي الإنساني كملحمة جلجامش وملحمة الأوديسا والمعلّقات وكتاب ألف ليلة، والكوميديا الإلاهية.

وقد أفصح محمد بنيس في هذه الترجمة عن جوانب لم يشر إليها أحد من المهتمين بأدب ملارميه وحياته، حيث يكشف ولأوّل مرّة عن حضور الثقافة العربية الإسلامية في “رمية نرد”، وعن مدى تأثّر ملارميه بالثقافة العربية الإسلامية وهو موضوع كبير.

ولنا أن نتساءل هل ترجمة رمية نرد لمحمد بنيس ستفتح أفقاً معرفياً جديداً لقراءة الأعمال الكبرى التي تُظهر أهمية الثقافة العربية الإسلامية في الثقافة الفرنسية والأوروبية بوجه عام؟ وما هي مكانة الثقافة العربية الإسلامية في هذه الأعمال التي ستفتح للمتلقّي أفقاً جديداً وموضوعاً معرفياً خصباً للقراءة والتّأويل؟

(عن “مجلة أعناب القطرية”)

 

اترك رد