مدريد – د. محمّد محمّد خطّابي (*)
تقول الشّاعرة اللبنانيّة المتألقة الدكتورة يسـرى البيطـار فى قصيدتها “ولم أطلبْ كَـثيـرا…” : “طَلبْـتُ الظّـلَّ .. لم أطلبْ كَـثيـراً / وَظِـلُّـكَ ليسَ مَلهًـى أو سَـريـرا / هو الإخـلاصُ يَمْنَـحُـني سُكـونًـا / كَوجْـهِ الأمِّ يَحْـتَضِـنُ الصّغيـرا / فَمـا لَـكَ لا تحِـنُّ على رِدائـي؟؟ / تُـريـدُهُ مُـسْـتَـبـاحًـا أو قَصـيـرا / أنـا أحتـاجُ دِفـئًـا فـوقَ جسـمـي / وَلا أحـتـاجُ مـالاً أو حَــريــرا / رُجـولَـتُـكَ الوَسيمـةُ دونَ حُـبٍّ / كَمـا الأزهارُ إنْ نَـفَـتِ العَبيـرا / طَلبْـتُ الظِّـلَّ فـوقَ سماءِ روحي / لِـتَـفـرُشَ أنـتَ مَقعَـدِيَ الـوَثيـرا / نُجـومًـا لا تخـافُ مِـنَ اللَّـيـالـي / وَقَـلْـبًـا كـادَ حُـبًّــا أن يَـطـيـرا / وَزَهْرًا من عُيونِـكَ فوقَ صَدري / فَـلا عَـرشًـا تَـركْـتَ وَلا أميـرا / وَمجنـونُ الهَـوى أبهـى جُنـونًـا / إذا ما صامَ وَاسْـتَفـتى الضَّميـرا.
هذه القصيدة ** (ولم أطلبْ كَـثيـراً…) تُبيّن لنا بجلاء وببساطة أنّ :
الشّعرَ لمحٌ تكفي إشارتُه / وليس بالهذر طُوّلتْ خُطبُه.
هذا ما أخبرنا به الشاعر المُجيد أبو عبادة البحتري المنبجي شارحاً ومنشرحاً ، خلافاً لما أخبرنا به الشّاعر المنكود الطالع الحطيئة منذراً ومحذّراً حيث يقول في مقامٍ آخر :
الشِّعرُ صعبٌ وطويلٌ سلّمُه / إذا إرتقى فيه الذي لا يهلمُه
زلّتْ به إلى الحَضيض قدمُه / يريد أن يعربَه فيعجمُه .
فى هذا السّياق فإنّ هذه الّلمحة الشّعرية المُوفيّة الجميلة الآسرة التي تدعو إلى الإعجاب حقاً، تُعافي النّفوسَ المكلومة ، وتغبط القلوبَ المعنّاة الحزينة.. إنها ومضاتٌ نورانيةٌ جوّانية جاءت فى سَلاَسَةٍ، وأنسيابٍ،ورفقٍ، ورونقٍ، وبهاء، تنويعات وتريّة رخيمة متوتّرة ، فوّارةٌ من ظمأ، أو نبعٌ رقراق يتفتّق من أعماق أعاميق نفس الشّاعرة العاشقة الأيّمة، الهائمُة، الولهانة ، إنه شِعر يقطرُ شَهْداً وعِطْراً وسحراً، ويندّ صَبَاً وصَبّاً وصَبابةً.
نستأذن شاعرَتنا الرّقيقة،وأديبنا الأنيقة الدكتورة يسرى البيطار، لنرتقي بأبيات قصيدتها الطليّة سلّمَ الشّعرالطويل، من أواخر كلماته إلى أعلاها عملاّ بإيماء أبي عبادة ، فالقصيدة من الرّوعة بحيث يُمكنك قراءتها من حيث تنتهي كذلك، إنّها تكاد تذكّرنا إلى حدّ مّا،من حيث المبنى، بالببيت الشّهير الذي يُنسبُ لواضع النّحو العربي أبي الأسود الدُّؤلي الذي يُقرأ من اليمين إلى اليسار والعكس،وَيَفيِ بالغرض ولا يتغيّر معناه، وهو:
( مودّته تدومُ لكلّ هولٍ /وهل كلٌّ مودّتُه تدومُ ).
فهذا البيت يمكن قراءته بشكل عادي أي من اليمين إلى اليسار،وكذلك من اليسار إلى اليمين، مثلما هو عليه الشأن فى قصيدة الدكتورة يسرى البيطار إذا قُرئتْ أيضاً من حيث تنتهي (أيّ من أسفل إلى أعلى) مع تعديلات بسيطة جدّاً تكون النتيجة مُبهرة ،ومفاجئة، وهاك الدّليل : ” ضميراً إستوفى إذا ما صَامَا،مجنونُ الهوىَ بَهِيُّ الجُنُونِ،فما تركتَ أميراً ولاعرشاً ، ولا عيوناً فوق صدري ولا زَهْرَا ، قلبٌ طار حبّاً أو كاد أن يطيرا، واللّيالي لا تخافها النجومُ ،وَثيرٌ مَقعدي،وفِراشٌ أنتَ لروحي، وسماءً فوق الظلّ طلبتُ،عبيرٌ لم ينفِ الأزهارَ،وحبٌّ دون الوسامة رجولةٌ، لا حريراً ولا مَالاً أحتاجُ، دِفئاً فوق جسمي كلُّ ما أحتاجُ،قصيراً ومستباحاً ردائي تريده، فهلاّ عليه حنوتَ ، صغيرٌ حَضَنَه وجهُ أمِّه، إخلاصٌ يمنحني سكوناً ، ليس سريراً ظلّك، ولا هو مّلهىً ، أنا كثيراً ما طلبتُ.. فقط ظلَّكَ طلبتُ “..!
يلاحظ القارئ الكريم أنه قد تمّ الإحتفاظ بجميع الكلمات الواردة أو المذكورة فى القصيدة على وجه التقريب ،ولم يُغيَّر فى هذا النصّ الأصلي الجميل شئ بالكاد إلاّ لماماً ،وإنّما عمدتُ إلى قراءته من حيث ينتهي بضربٍ من الرّتقٍ والفتق، فكان هذا الدّفق الجميل، وهذا التداعي العَذب المتخفّي داخل القصيدة نفسها.
ولكنّي مع ذلك، بعد هذا الغوْص المعاكس، أوالسّباحة ضدّ التيّار داخل يمّ هذه القصيدة، فإنّني لن أبخسَ الشاعرةَ الرقيقَة، ولا القارئَ المُجيدَ حقّهما فى أن يتباهيا عن جدارةٍ، وأهليّةٍ،وأحقيّةٍ، وإستحقاق بعرض جمال وروعة هذه الباقة الشّعريّة كما وُضعت بعنايةٍ فائقة فى مزهريتها البلّورية الأصلية ،أو كما ألهمتها مبدعتها، لذا فإنّني أطَمْئِنُ الشاعرةَ من جهة على سلامة هندامها وروحها ،وأنصحُ القارئَ من جهةٍ أخرى أن يعود إليها ليقرأها من جديد،عن رويّةٍ، وبتؤدةٍ ،وتأنٍّ،وأناة، وليستمتعَ بها،وليستمع، ويُصغي إلى نبراتها الموسيقية الرّخيمة، على حالها كما تفتّقت عن قريحةُ فنّانٍة مبدعة، فذّة، تُمسك بناصية الشّعر، وتسبحُ بمهارة فى بحره العميق،وتتسربلُ ببهاء سِحره، وسِرّه، وعِطره،وشفافيته ورقّته،وبهائه، ورونقه.
الشّاعرة الصّديقة يُسرى البيطار فى هذه القصيدة، وفى سائر قصائدها.. روعةٌ وجماليةٌ فائقتان، فتنة وإفتتان مُبهرتان، رقّة وعذوبة رائقتان،رهافةٌ وخصوبة نديّتان، أشعارها خلقٌ، وعطاءٌ ،وإبداع، ومتعةٌ، وتحفةٌ، وإمتاع، صبٌّ وصبابة، نايٌ،ونأيٌ ،ودنوٌّ، وربابة،عطرٌ نَدِيٌّ أريج، يغشاكَ سحرُه البهيج، ويُبهرك بيانه فى الغدوّ قبل إنطلاق الديّكة بالصّياح متدثّراً بنَدىَ الغسَق فى عزّ الصّباح، ومتسربلاً بشذىَ الشّفق عند الأصيل والرّواح.
سليلَة الأدبِ الرّفيع،ومَرُومَةِ الأربِ البديع، ورفيقةُ نَجمة الدّجىَ عند االهزيع، ،كلماتُ شعرها نوارسُ طائرة، وأغصانٌ زاهرة، ومعانٍ ناضرة ،ومشاعر فائرة، وفضاءات باهرة،وإبداعات ساحرة ، وجفونٌ ساهرة، وتنويعات وتريّة متوتّرة ، وأنغام مؤثّرة ،وهذه القصيدة وإن قَصُرتْ ، تظلّ نبعاً رقراقاً،ومَعيناً فيّاضاً ،وقبساً نورانياً متفتّقا ينبثق من أعماق أعاميق نفسِ شاعرةٍ عاشقةٍ للحرفِ المُوشي المُنمّق الجميل ، وَالِهَة ، ساهرةٌ، ساهدةٌ، سامرةٌ أمام دواتها الذهبيّة، وأوراقها المَخمليّة، ويراعها الأعلى الأصيل ،وقلمُ حبرها المُبدع الأثيل، تسهرُ معه حتى السَّحَر، متمنّعة فى أن تأخذ نفسُها راحتَها من النّوم، و تنال قسَطها من السّكينة والرّاحة من التعب، ومع ذلك تأتي الأبيات المتلألئة مُنثالةً، منسابةً كشلاّل مُنهمر، فإذا بالأحاسيس المُرهفة ،والمشاعر المُترفة ،تتسابقُ، وتتلاحقُ، وتتسلّل فى رِفق لتبرحَ أديمَ الثّرى، وتصعدَ، وتتعالى، وتنأى عن الوَرى، وتعلو عنان الفضاءات لتقطنَ فى الأعالي السّامقات، هنالك فى هيادب السّمت النائي العتيد ، وفى ثبج الكون الفسيح البعيد ، جارةً للثريّا والسِّمَاكِ الأعْزَلِ .
هنيئاً لشاعرتنا ،وأديبتنا الدكتورة يسـرى البيطـار ،وبارك الله فى يراعها المِخصَاب، وبورك حبرُ دواتها الرُّضَاب.
*****
(*) كاتب،وباحث ، ومترجم ، وقاصّ من المغرب، عضو الأكاديمية الإسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم- بوغوتا- كولومبيا-.
(**) سبق لهذه القصيدة أن نُشرت فى كلٍّ من جريدة ” الأنوار” الزّاهرة، وفى موقع Aleph Lam الرّائد الأغرّ.