خالد غزال
(كاتب وباحث-لبنان)
بعد أن همدت نار الاحتفالات التي نظّمها كلّ من التيار الوطني الحر وتيار المستقبل، بانتخاب ميشال عون الى الرئاسة وسعد الحريري الى الحكومة، انتقل الموضوع الى ترجمة الاستحقاق عملياً عبر تشكيل الحكومة. بعد مرور شهر، لا يخفى أن وهج الاحتفاليات تلاشى، ليفسح الطريق الى المواقف السياسية المستعصية ونيل كل قوة حصتها من نظام طائفي قنّن المحاصصة بأدق تفاصيلها.
يسود الكلام لدى الجميع أن اتفاق الطائف هو المرشد لمسار التسوية والحياة السياسية. يفهم كل طرف الاتفاق وفق مصالحه ومصالح الطوائف التي يمثلها. صحيح أن اتفاق الطائف عام 1989 أدى الى قيام تسوية سياسية، كانت مرعية بموقف عربي فاعل ومؤثر على الأرض، تقوده لجنة ثلاثية عربية مدعومة بموقف دولي حاسم سعى الى إنهاء الحرب الأهلية بأي ثمن. لم يكن الاتفاق مثالياً، بل كان ردة الى الخلف بمقياس ما كان سائداً على صعيد التوزيع الطائفي القائم على الأعراف، فكرسه الطائف قانوناً ثابتاً. صحيح أن التسوية الراهنة التي ملأت الفراغ الرئاسي كانت بتوافق إقليمي ودولي، لكنها لم تكن تحمل الزخم إياه لاتفاق الطائف، ولم تدخل في إنجاز تسوية جديدة تعدل اتفاق الطائف، بل جلّ ما قدمته هو المساعدة على انتخاب رئيس للجمهورية يضع حداً للفراغ ويعيد الى المؤسسات الدستورية دورها. بعد هذه المساعدة، بات على اللبنانيين أن يدبروا أمورهم بأنفسهم. فإلى أي حد أظهر اللبنانيون، حتى الآن، مسؤولية في خلاص بلدهم وتشكيل حكومة تؤمن إدارته وتسيير مصالح المواطنين؟
بعد مرور فترة كافية لعهد صعد الى بعبدا يحمل وعوداً وردية وخلاصية للبنانيين، وبعد تكليف رئيس للحكومة بموافقات وازنة، بدأ الصراع الحقيقي على اتفاق الطائف وتفسيره يحتل الصدارة في الحياة السياسية.
اعتبرت المسيحية السياسية، بقطبيها التيار الوطني والقوات اللبنانية، أن العهد الجديد مناسبة استثنائية لاستعادة الموقع المسيحي السابق الذي تهمّش زمن الوصاية السورية وأصابه الانقسام، بحيث باتت مكوناته ملحقة بالشيعية السياسية أو السنية السياسية. بدأ بالإعلان صراحة عن احتكاره التمثيل المسيحي وتهميش قوى أخرى ليست من دون فاعلية، والإصرار على أخذ الحصة الوازنة من الوزارات تحت عنوان تأمين الميثاقية في شكل صحيح. في المقابل، تصرفت الشيعية السياسية عل قاعدة أنها طعنت في الظهر لأنها لم تكن ذات دور أساسي في صناعة الرئيس، وهو ما جعل تصرفاتها محكومة بكيدية وشخصانية على نموذج مناكفات أهل القرى. لكن الفعلي في موقف الشيعية السياسية أنها تريد تكريس موقعها المتميز الناجم عن عوامل متعددة، لعل أهمها السلاح الذي تملكه والذي عطل البلاد لسنوات ومستعد لتعطيلها الى الأبد. كما أن الشيعية السياسية تتصرف بأن موقعها في التوازنات لم يعد إياه قبل عقدين من الزمن، وهي تريد ترجمته في الحكم، ومعها ملحقاتها المسيحية. لذلك تريد الحصة الوازنة في الحكومة تحت التهديد بمنع تشكّلها، وهي قادرة على ذلك. أما السنية السياسية التي يتصرف رئيسها كأن حقوق الطائفة تحققت بمجيئه الى السلطة، فلا يقل بعض أطرافها سعياً الى الشد لنيل حصص تكرس الموقع المتميز الذي أعطاه الطائف لهذه السنية.
في ظل صراعات المحاصصة، لا يبدو أن العهد الجديد قادر على الانطلاق، بل الأرجح أن عمليات الشد سينتج منها تعطيل البلد وإعادته الى الفراغ، لكن هذه المرة مع رئيس للجمهورية مشلول القوى والفاعلية. لن تنفع التهديدات بقرارات حاسمة كما يجري التصريح، فتوازن القوى الداخلي يمنع هيمنة طرف من الأطراف، لأن السعي إليها هو سعي الى تفجير التسوية الطائفية نفسها وإدخال البلد في أتون حرب داخلية يختلط فيها «الحابل بالنابل».
المثير للشفقة لبنانياً، أن صراعات القوى السياسية – الطائفية تتصاعد من دون رؤية الأخطار المقبلة على لبنان في ظل النار المشتعلة عربياً، والتي يصل لهيبها تباعاً الى الأرض اللبنانية. يحتاج البلد الى تجديد تسوية سياسية انطلاقاً من اتفاق الطائف وبما يسمح بإعادة التوازن بين المجموعات اللبنانية، لكن هذ التسوية تحتاج الى قوى سياسية تغلب المصلحة الوطنية العامة على مصلحة الطائفة. للأسف، ومنذ سنوات، يفتقد لبنان الى قوى تتمتع بأهلية إنجاز تسويات وإدارة البلد بعيداً من «الحروب الصغيرة» التي يتقن قادة الطوائف إدارتها على حساب الوطن ومصالح أبنائه. ما ظهر سابقاً من خفة سياسية وانعدام في الأهلية، عاد يتكرر اليوم في ظروف أصعب بكثير مما مضى.
صحيح أن البلد صار له رئيس، لكن الجمهورية ستبقى معطلة الى أمد غير معروف، وما يقال عن عدم تمكين رئيس الحكومة من التشكيل، لا يقع في فراغ، بل هو أمر سائر الى التحقق.