في وصف حب السيد وحربه

rashid-derbas

رشيد درباس

(وزير الشؤون الاجتماعية_ لبنان)

فكيف يكون موت؟!

ما زالت الحروف تنبجس من غديره، ثم تنساب في سواقي الحبر إلى الصفحات الـمُغوِيات للعيون، في سُرْبتها إلى عمق الأعماق.. بين المحدود والمطلق، حيث يتحدّ العارف بالمعروف، وتسقط الـ التعريف، لأن السيد لا يميل إليها لا رسمًا تامًا أو ناقصًا، فالإيمان حال تمرُّ بالعلم وقد لا تمرّ، فإن مرّت واجتازت تجاوزت، وإن قرَّ الإيمان في العلم انحبس.

كيف يكون موت؛

والجبة سرادق حبٍّ يتسلَّى فيه الحَفَدَةُ، ويعبَثون بلحية من الفلفل والملح (التعبير لصلاح عبد الصبور)، بل يتمادَوْن ويسألون “جدو” إذا كان قد أحب، ولا يأبهون ليحرجه والسؤال يطرق أسماع أمِّ حسن والأبناء، فيجيبهم ” الحب مثل الشعر،       ميلاد بلا حُسبان”، فلا يأكلون من هذا الطعام الملتبس الطعم، ويلحّون بالسؤال الذي تحمرُّ له الخدود، فيقول “الحب مثل الشعر، ما باحت به الشفتان بغير أوان، فيبدون مللهم من الجواب المخلّ بالمعنى ويقهقهون ويتهمونه بالمراوغة ويصرّون نحن نسألك عن الحب الحب”…

فيستلّ السيد حاءه من الحشى، وباءه من البَوْس، ليتألفَ الحرفان حبًا أخضعهما لفحصه لكي يصف اتحادهما، ثم شاء له الأدب والتأمل أن يفصل بينهما براء مجهورة، وهي من الحروف الذُّلق، لأن الذلاقة في المنطق إنما هي بَطَرفِ أسَلَة اللسان، كما جاء في اللسان، فإذا به، بذلاقته المعهودة يرينا كيف يمكن أن ينفصل الحرفان برأرأة من العينين، فَتُنْصَبُ المتاريس بينهما وينهزم الحب حربًا.. والبَوْس بؤسًا، والحياة ردى…

وفحص جدير بفحص هذا كما فحص الحب، فكان العنوانُ لكتابه الذي أودعنيه الصديق أنطوان سعد، يوم الاثنين، فزجّني في لجِّ جميل مَهيب، جعلني أزن الثواني بميزان الصيدلي، حتى لا تتسرب مني الكيمياء في الوقت الفاصل بين الإثنين والأربعاء، فأصلَ إلى هذا المجلس، وقد انفضح قصوري في حضرة يملأها رفيق عمره وفكره ونوره وتنويره وشعره وأدبه، خليله وسليل أرومته الشريفة، سماحة العلامة السيد محمد حسن الأمين، الذي قال فيه بُعَيْد دفنه، ما معناه أن راحلًا كهاني، لا يكتب فيه إلا بعد أن يجف اسمنت ضريحه، فاكتفى بإشارته ذات الدلالة، بأن الموت المبكر للسيد هاني أفقدنا مشروعًا فكريًا كان يشقّ طريقه المعبد بالضوء السديد والبصر الحديد.

ربما لا يذكر السيد ليلةً جمعتهما معًا في دارة المرحوم الدكتور علي شلق، أسمعنا فيها بعضًا من شعره الذي صفق له سعيد عقل ناصحًا الحاضرين بأن يكبتوا أشعارهم حتى لا يحترقوا في الفضاء الأمين …

أنا أتوقع منه ديوانًا موازيًا لكرمة هاني، كما تكاملُ نهر وريف، خريرٌ يحمل رائحة التبغ من جنوبه إلى الشمال، صعودًا إلى قاديشو “حيث تلتقي الرسالات في المصدر والمجرى والمورد وإلا لا تكون رسالات”.

hani-fahs

كيف يكون موت وقد أوحى له الوادي أن:

“ليس عندهم سوى عِصيٌّ من خشب

“ولكنهم أساقفة من ذهب.. ها هم قد أغروني بالذهاب

“من زماني الى زمانهم.. ولا أظن أن عضلات من

“حفروا هذه الصخور العنيدة، سوى عضلات الروح

“التي يزيدها الاضطهاد قوة ووهجًا، عضلات يجري فيها

“الصبر مع الدم، ويصبح الدم صبرًا والأوردة أزاميل

“ويتحوّل العظم إلى عظمة والصخر إلى شعر وصلاة”.

بوركت صلاتك يا سيد وهي مسموعة في مكة وكربلاء، وفي كنيسة القيامة، ومعابد الدنيا، ومقبولة عند رب واحد عاتب نبيه موسى لأنه عكّر على الراعي عبادته فقال له: “ماذا فعلت بعبدي الراعي… دعه يعبدني باللغة التي يعرفها”.

أيها الأعزاء …

أعترف لكم أن شوقي بزيع قد أحبطني، إذ ما كدت أعود إلى مقدمته التي استأخرت قراءتها لما بعد الفصول، حتى اكتشفت أن ما سوَّلت لي نفسي به من لعب على حروف الحاء والراء والباء، قد سبقني إليه مقترحًا جمع ما كتبه في الغزل والعشق الموزّعين بين الناس والأماكن داخل كتاب مستقل       “في وصف الحب” تاركًا الحرب إلى كتاب آخر، حتى لا ينغرز نصل الراء في قلب الحب، فتملَّكني شعور بأن المقدمة من صلب الكتاب، وجزء من سياقه، فأعادني هذا إلى آخر مجموعة شعرية لي، بعنوان “من… إلى حبيبة” التي قدّمها السيد هاني واستخرج منها سطرًا شعريًا أقول فيه:

بنيَّ

وسيطي إليَّ

وسيلةَ نقلي لحقلٍ تقصِّرُ عنه العيونْ

تأملتُ كيف كبُرتَ أبا

وكيف الأبوة تطوي الصِّبا

أأنت زمانٌ يُطيل زماني

ليقول: “يا رشيد تكفيك هذه القصيدة، تكفيك هذه اللعبة على حبال اللغة“، ثم ينتقل إلى قصيدة “خمستهم“، التي نظّمتها لفضل ورشيد ولارا وزياد وتيما، أبناء ابني وبنتي، ليشعرني أنه شريكي في المشاعر والتعبير، والفرح، والإحساس بالبقاء..

فكيف يكون موت؟!

ومما قاله في تلك المقدمة:

عندما أنتقل من الشاعر إلى ديوانه يبدأ الوجع والتبرّم، وأوجع، بل أجمل من هذا البرم، أنني لا أتوب ولا أنوي التوبة، وليكتب رشيد درباس ألف ديوان، وأنا مستعد لتقديمها كلّها”.

أيها السيد، أعترف لك، أن كلّ شطر يصدر عني مسكون بمقدمتك تلك، ولقد كتبت عنك في حضرتك مرة، بمناسبة صدور كتابك “اقتراض الشعر لا إقراضه” الصادر عن سائر المشرق… ثم كتبتُ لك مرارًا بعد الرحيل… وسأظل أكتبُ سواء أصدرت مؤلّفات جديدة أم لم تصدر، فأنت بطريرك انطاكية وسائر المشرق في طقوس الحب والإيمان والعبادة والتصوّف والتأمل والشعر… فيا هناءتي إن صرتُ شماسًا في هذه المعابد، أو ربّاع نواقيس، أو سقَّاءً خادمًا لماء الشرب والوضوء…

فكيف يكون موت ؟! .

*****

(*) ألقيت في ندوة حول كتاب السيد هاني فحص “في وصف الحب والحرب”، نظمتها دار سائر المشرق في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب الأربعاء 7 كانون الأول 2016.

hani-vector-phg

اترك رد