نهاد الحايك
(شاعر-لبنان)
كان حباً من الكلمة الأولى. هكذا ارتفعتُ عندما وقع سمْعي صُدفةً، وبعد عودة إلى الوطن من غربة ستة عشر عاماً، على كلامٍ مختلف تبثُّه موجة من الموجات المتزاحمة في أثيرنا والتي، باستثناءات قليلة كي لا أفتري على أحد بالتعميم، تَدفقُ علينا أصنافاً من التفاهة والسطحية والمتع الزائفة والترفيه الرخيص والتحليلات المضلِّلة والمضلَّلة، وكلها تلتقي عند تصنيف واحد: السموم.
في هذا الفضاء الملبد بالبلادة والملل، عثرتُ على كلام يخرق أسوار الفكر المدجَّن، يُنعش القلب المتعَب، يفتح الطريق المسدود، يمدُّ الجسر المنشود. كلامٌ يَعبُر الأثير على بساطٍ لغوي منسوج ببلاغة ساحرة ومطرز ببساطة آسرة. وما أجَّج فعلَه في نفسي أنه صادِرٌ عن رجل دين، وهنا الفرادة. هنا الفضل. هنا الفعل. فكيف إذا كانت المستمعة مسيحية ورجل الدين مسلماً! هنا الإدهاش.
هكذا دخلتُ إلى فضاء السيد هاني فحص، منهلاً للامتياز الفكري والروحي والأدبي واللغوي والوطني والإنساني. وعندما شرعت في الكتابة عنه لهذه الندوة، أدركت أنني أكتب عنه وأنا تحت وقع تأثيره، وأنني أسترشد بروح قلمه. وهذا دأب المبهورين. هذه الكلمات غير المدّعية، أردتها تحية محبة وتقدير لصاحب الإرث الذي حَفرَ به مكاناً في صخرة مستقبلنا لا على رمال ذاكرتنا.
شُغف بالمعرفة، طلبها وحفَّز على طلبها. لكنه رفض التلقّي السلبي الساكن المرتاح، وانتهج السؤال وقلقه غير آبه بمخاطره. قال “الثقافة سؤال وأنا مستودع أسئلة لا مستودع علم”.
شُغف بالاختلاف إلى حد اعتباره ضرورةً مفهومية وعملية للوحدة. ورأى في الآخر والمعرفة الأخرى “تحدياً معرفياً جميلاً، من دونه نتكلّس، ننعزل”.
عبَّر عن قناعته وعاشها. أسّس المؤتمر الدائم للحوار اللبناني وساهم في تأسيس الفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي. قال “الإرشاد الرسولي شأني أيضاً كمسلم لبناني. الإرشاد يعنيني، ولو لم يكن يعنيني وأعنيه كمسلم لبناني، لما كان”.
الحب الذي يصفه في كتابه الجديد الذي نحتفل بصدوره “في وصف الحب والحرب”، ليس الحبَ العادي، وإلى حد ما الفطري، أي الحب بين رجل وامرأة، أو بين أفراد العائلة، أو بين الأصدقاء، أو حب الطبيعة والوطن والحياة. وهو من أجمل ما مُنح الإنسان. كما ليس هو حبَ الله، وأعني ليس حبَ الله مجرَّداً عما عداه. إنه الحب الصعب، بل الأصعب، حبُ الآخر المختلف والمخالف، حبُ الآخر المفترق خوفاً وشكاً ونقضاً ونقداً، حبُ الآخر الواقف على الطرف الآخر من جسرٍ مكسور. وهذه أسمى درجات الحب. لأنه تجلٍّ من تجليات حب الله.
هاني فحص هو الفدائي الذي يرمم الجسر. نعم، فدائي لأنه تجرأ وحفر الجدار الفكري المانع. تجرأ وغامر بخسارةِ طمأنينةِ حُضن الجماعة. تجرأ واعتنق النقد الذاتي سبيلاً إلى جوهر الإيمان وتجسيداً لعِشق الحرية وترسيخاً لحق الحلم والحياة.
عندما يتحدث عن الحوار ويدعو إليه، وهو، أي الحوار، فعلٌ أرضي سياسي يرزح تحت أعباء الواقع الفجّ المُرّ المحبِط المنفِّر، ترتدي كلماتُه أجنحةً من نسيجٍ سماوي، تتّسم دعوتُه برومنسية الحالمين والصادقين والثوار والعاشقين والزاهدين لتُغريَنا بالنعمة، فقد قال “أعيش في فضاء الحوار ولا أريد أن أغادره لأنني أحسست بالنعمة، نعمة معرفة ذاتي ومعرفة الآخرين، نعمة معرفة جمال الاختلاف”.
بمواقفه الداعية إلى نظام علماني في لبنان كان مغرداً خارج القفص الذي تلتقي فيه السلطات الدينية والدنيوية.
صديق الشعراء والأدباء، قارؤهم، وزميلهم في مغامرة البحث عن تجليات الجمال ولآلئ التعبير. أحب الجمال ولم يرفض تجلياته في الفن بل قال “إن كل ما هو مفيد أو جميل حلال ولا يخالف الشرع”. وقال “فتحتُ المحرابَ على الفكر والأدب ورجعتُ للّوثة الأدبية”. كان مصاباً بلوثة الشعر والأدب والمسرح والموسيقى، يستمع إلى بعض الأصوات الطربية التي وصفها بأنها “أَحَنُّ وأكثر روحانية من أصوات بعض المنشدين وقارئي الأدعية”.
بحِبرٍ مُتَّقد، يُشعل هاني فحص أشواكاً ويباساً في صحراء الفكر وفي آن يبعث فيها طراوة وانتعاشاً.
ثقتنا بفعل إرثه الفكري والإنساني والأدبي ضرورة، حتى لو زعزعت قناعتَنا حالةُ الناس في عصرنا الحاضر. ولا أُخفي خِشيتي من أن تضيع صرخته في وادٍ مكتومِ الصدى لأن جيل هذا العصر، وأقول بغالبيته تلافياً للتعميم، وبالرغم من كل ما نشهده من كتب في المعارض ودور النشر، هذا الجيل لا يجيد من القراءة إلا قراءة الصور، ويَنفر من أيّ جهد فكري، ويهوى الاستسهال، ربما ترويحاً عن أثقال الحياة وهموم المعيشة أو انحيازاً لخمول الترف.
تكريمُه؟ بقراءته ونشر كلمته، باستلهامه، بتَلقّي عدوى الحب المتفشية في صفحاته والعابقة من عطر حبره.
وصف هاني فحص للحب هو وصفة، بل هو الوصفة ضد الحرب.
*******
(ألقيت في ندوة حول كتاب السيد هاني فحص “في وصف الحب والحرب”، نظمتها دار سائر المشرق في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب الأربعاء 7 كانون الأول 2016)