الأب كميل مبارك
تَحْضُرُني في زَمَنِ الميلادِ هذا العام كلِماتٌ مُضيئَةٌ من كلماتِ الكِتابِ المُقَدَّس، تَعْلَقُ في ذِهْني وتَلْمَعُ في عَيْنَيَّ وتَدْفَعُني إلى تأَمُّلٍ من نَوْعٍ يتَناغَمُ مع الواقِعِ الذي يَعيشُهُ النَّاسُ على اتِّساعِ كُرَةِ الأَرْضِ، ويَدْخُلُ أَحْياءَهُمُ الضَّيِّقَةَ ويَعْبُرُ طُرُقاتِهِم الرَّحبَةَ، ويَطْرَحُ علاماتِ اسْتِفْهامِ أَمامَ مَعابِرِهم المُلْتَوِيَة. من هذه الآياتِ المُبارَكَةِ واحِدَةٌ تقولُ بَعْدَما خَلَقَ اللهُ الأَرْضَ ومَا عَليْها: نَظَرَ اللهُ فإذا كلُّ شيْءٍ حَسَن.
أَجل، يَوْمَها كانَتْ بُكْرَةُ الخَليقَةِ ببِحارِها وأَنْهارِها وغاباتِها وجِبالِها وسَمَائِها وفَضائِها، ومَا في كلِّ هذه منَ الأَسْماكِ والطُّيورِ الزَّحافاتِ والدَّبابات، ومَا عَلَيْها منْ أَشْجارٍ مُثْقَلَةٍ بالثِّمارِ ومُزْدانَةٍ بالأزهارِ التي تَمْلأُ الأَفْلاكَ والأَفْياءَ بأَريجٍ أَشْبَهَ بعَبَقِ البَخور، وكلُّ مَنْ يَنْظُرُ إلَيْها لا بُدَّ أَنْ يَرَى كلَّ شيْءٍ حَسَنًا. وكأَنَّ تَرْنيمَ المَلائِكَةِ فَوْقَ المَهْدِ «على الأَرْضِ السَّلامُ والرَّجاءُ الصَّالِحُ لبَني البَشَر»، استعادةٌ لتلكَ البُكْرَةِ النَّاصِعَة.
وكَرَّتِ الدُّهورُ بأَيَّامِها وساعاتِها، وانْحَنَتِ الثَّواني خاشِعَةً أَمامَ الزَّمَنِ المُترامي، ناظِرَةً إلى الماضي الجَميلِ بعَيْنِ التَّوْقِ إلى مُلاقاته من جديد، مُرْتَعِشَةً قَلِقَةً أَمامَ الحاضِرِ الدَّاكِن، خائِفَةً منَ المُسْتَقْبَلِ المَحْفوفِ بالمَخاطِر، وكأَنَّ النَّاسَ يَهْدِمونَ بَيْتَهم بأَيْديهِم ظنًّا منهم أَنَّهم بسَعْيِهِم إلى السَّيْطَرَةِ على نِظامِ الكَوْن، يأْمَنونَ شرَّ المُفاجآتِ، والحقيقةُ أَنَّهم يَمْلأُونَ كُؤُوسَهُم بدِمائِهِم فيَرونها مليئَةً بخَمْرَةِ العِلْمِ والمُخْتبراتِ فيسكرون.
لقد ملأَ النَّاسُ، والأَصحُّ أَنْ أَقولَ، بَعْضُهم، كلَّ مَشاهِدِ الحُسْنِ في الأَرْضِ مُسْتَنْقَعاتٍ منَ الأَوْهامِ، فلَوَّثوا الماءَ والهَواءَ والتُّرابَ، بنِفايَاتِهِمِ الصِّناعِيَّةِ الثَّقيلَةِ التي مَزَجَتْ بَرارَةَ الأَرضِ الأُولى بفَسادِ مَا صَنَعَتْ أَيْديهِم، فكانَ الاحْتِباسُ الحَرارِيُّ، وثُقِبَ الأُوزون، وذابَ جَليدُ القُطْبَيْنِ أَو كاد، وتلاعَبَ العِلْمُ بجيناتِ الفاكِهَةِ والخُضار، كمَا بجيناتِ الحَيَوانِ كتَمْهيدٍ إلى مكوِّناتِ الاِنسان، حتَّى بِتْنا في مَوْقِعٍ لَوْ نَظَرَ اللهُ إلَيْه لَمَا عَرَفَ ماذا ابْتَدَعَتْ يَداه وماذَا خلقَ بالكَلِمَة، ولَحارَ بالنَّاسِ ماذا يَفْعَلونَ بجَنَّةٍ تَرَكَها لهُم ليَسْعَدوا، فإذا بهم يحوِّلونَها إلى جَحيمٍ مُؤَقَّتَة لا أَحدَ يعرفُ مَدى الخَراب متى تَفَجَّرت.
هذا ولمْ يَكْتَفِ النَّاسُ ببِناءِ المَخازنِ والأَهْراءِ، خَوْفًا منْ شِحٍّ في المَواسِمِ وقَلَقًا من جوعٍ مُداهِم، وكانَ اللهُ الذي خَلَقَهُم لا يأْبَهُ لِمَا يُصيبُهُم من قَساواتِ الحَياة، بلْ زادوا في تَخْزينِ أَسْلِحَةِ الدَّمارِ تَحَسُّبًا لعدْوانٍ مُرْتَقَبٍ من دَوْلةٍ هنا أَو مجْموعةِ رُعْبٍ هُناك، وكأَنَّ هؤُلاءِ النَّاسَ رَفَضوا مبدَأَ السَّلامِ الذي زَرَعَه اللهُ في قُلوبِهِم فاحْتَموا بالعُنْفِ والقُوَّةِ ومَا يُهدِّدُ ومَا يُخيف، وباتَتِ العَداوَةُ دينَهُم والشَّراسَةُ ديدنهم والعنفُ أُسْلوبَهم والاِرْهابُ طَريقَهم إلى لبَقاء. فامْتَلأتِ الأَرضُ من دِماءِ النَّاسِ بَعْدَمَا حَرَّمَ اللهُ دَمَ قايين الذي أَهْدَرَ دَمَ أَخيه هابيل، ونزَلَتِ الوَصِيَّةُ تقولُ: لا تَقْتُلْ، وأَتى التَّعليمُ يشَدِّدُ على أَنَّ الحياةَ لِمَنْ وهَبَ الحياة، فأَنْكَرَ النَّاسُ كلَّ ذلك ونَصَّبوا أَنْفسَهُم آلِهَةً يُقَرِّرونَ مصيرَ النَّاسِ ومَتى يأْكُلون ومتى يجوعونَ ومتى يموتون.
وشاؤُوا أَنْ يسبُروا عمقَ الخليقةِ للسَّيْطرةِ على مَا هو خارِجَ الأَرضِ بعدمَا اطْمأَنّوا إلى مَا فعَلوه على الأَرضِ وبِها، فنَزَلوا سَطْحَ القَمَرِ وبَحَثوا في تُرابِ المَرِّيخِ ولَعَلَّهُم يَحْلُمونَ بإطْفاءِ الشَّمْسِ وإشْعالِها ساعةَ يَشاؤُون، ويحبسونَ الهواءَ ويُطْلِقونه لحْظَةَ يُريدون، ويُحجِّرونَ الماءَ ويُسيلونَ الصُّخورَ، وكلُّ ذلك تَجاوُبًا مع فَحيحِ تلك الحَيَّةِ التي أَغْوَتْ آدم وحوَّاء، حينَ قالت: تُصبحونَ من الآلِهة.
هذه حالُ الأَرْضِ اليَوْم فماذا يقولُ اللهُ لَوْ نَظَرَ إلى خليقَتِه؟ أَتُراهُ يرى حُسْنًا على الأَرْضِ وسَلامًا في القُلوبِ ورَجاءً صالِحًا لبَني البشر؟! ونتساءَلُ، أَهذا هو ملكوتُ الله الذي نسأَلُه في الصَّلاةِ الرَّبيَّةِ حينَ نتوجَّهُ للآبِ قائِلين: ليتقَدَّسِ اسْمُكَ وليأْتِ مَلَكوتُك؟