بقلم: السيد يسين (*)
من الظواهر اللافتة للنظر أن مفهوم العدالة الانتقالية بدأ يشيع استخدامه في العالم العربي خصوصاً بعد اندلاع ثورات الربيع في تونس ومصر وليبيا. وقد أثار الموضوع عديد من مؤسسات المجتمع المدني خصوصاً المؤسسات الحقوقية، إضافة إلى الائتلافات الثورية، والمثقفين النقديين الذين مارسوا النقد السياسي المسؤول ضد الأنظمة الشمولية والسلطوية قبل سقوطها، وتابعوا بدقة عمليات القهر السياسي التي مارستها هذه النظم ضد الأحزاب السياسية المعارضة، وفي مواجهة المثقفين والناشطين السياسيين.
ويمكن في مجال تعريف العدالة الانتقالية الاعتماد على دراسة مهمة سبق للمستشار عادل عبدالماجد نائب رئيس محكمة النقض المصرية أن نشرها في مجلة «السياسة الدولية» (انظر «السياسة الدولية»، العدد 192، نيسان (أبريل) 2013).
وقد جاء هذا التعريف أن العدالة الانتقالية هي «مجموعة من التدابير والإجراءات القضائية وغير القضائية يتم الاضطلاع بها خلال مرحلة ما بعد ثورة الخامس والعشرين المجيدة للتصدي لانتهاكات حقوق الإنسان وغيرها من صور إساءة استعمال السلطة التي وقعت في ظل النظام السابق، وخلال فترة تغيير هذا النظام. وهي ترمي أساساً إلى القصاص العادل للضحايا، وجبر الأضرار التي لحقت بهم وبذويهم وإصلاح مؤسسات الدولة وتحقيق المصالحة الوطنية بهدف الانتقال بالمجتمع إلى صميم مرحلة الديموقراطية ومنع تكرار ما حدث من انتهاكات وتجاوزات».
ويمكن القول إن الفلسفة التي تقوم عليها العدالة الاجتماعية تعبر عنها بدقة كتابة خطت على حائط منزل رئيس أساقفة جنوب إفريقيا «ديزموند توتو» في مدينة «كيب تاون» تقول: «كيف نحول الأخطاء البشرية إلى عدل بشرى» أورد هذه العبارة دكتور رضوان زيادة في دراسته القيمة عن «العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية في العالم العربي».
ويمكن القول إن الخريطة المعرفية للعدالة الانتقالية تتمثل في أن دراستها تنتمي في شكل تقليدي إلى ميدان القانون الدولي لحقوق الإنسان، ومع التطور في تطبيقات المفهوم توسعت مجالات دراسة المفهوم لتشمل العديد من الآليات والأهداف التي تنتمي إلى العديد من الميادين العملية والبحثية، وذلك إضافة إلى روافد ليبرالية للعدالة الانتقالية خصوصاً في كتابات الفيلسوف «كانط و «جون ستيورات ميلز» وفي السنوات الأخيرة إلى مؤلفات «جون رولز» فيلسوف جامعة هارفارد، خصوصاً في كتابه الشهير «نظرية عن العدل». ولا يمكن هنا بطبيعة الحال إغفال الروافد الدينية والتي تعد حقوق الإنسان هدفاً لها.
وهناك اتفاق بين الباحثين على أن العدالة الانتقالية تتمثل في استراتيجيات عدة هي معرفة الحقيقة والمحاسبة والقصاص والتعويض وجبر الضرر والتطهير والإصلاح المؤسسي والمصالحة.
ويمكن القول إن كل إستراتيجية من هذه الاستراتيجيات تثير مشاكل نظرية وتطبيقية متعددة.
وقد تكون إستراتيجية معرفة «الحقيقة» هي التي تثير أكبر قدر من المشكلات في مجال التطبيق. فالهدف منها معرفة الحقيقة حول الأسباب والظروف التي ارتكبت خلالها التجاوزات والجرائم التي ترتب عليها إلحاق الضرر بضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بكافة صوره المادية والمعنوية.
وقد تثور هنا بالذات مشاكل فلسفية معقدة، أهمها هل يمكن – في إطار واقع معقد غاية التعقيد وصراعات عنيفة بين أطراف سياسية متعددة لكل منها خطابه السياسي ورؤيته للأحداث – معرفة الحقيقة؟ أم أن تشابك الأحداث وتعدد الروايات يمكن أن يكون عقبة كبرى لمعرفة الحقيقة؟
ولو شئنا أن نتأمل الموضوع فلسفياً لقلنا إن البحث عن الحقيقة والزعم أنه يمكن التعرف اليها باستخدام مناهج متعددة هي من مزاعم الحداثة الغربية.
ولو تأملنا الفكر الغربي الحديث والمعاصر لأدركنا أن سبباً من الأسباب الرئيسية للصراع الدولي كان زعم بعض الإيديولوجيات الكبرى كالماركسية والليبرالية، أو المذاهب المتطرفة مثل النازية والفاشية أنها تمتلك الحقيقة المطلقة!
ولذلك ركزت حركة ما بعد الحداثة على نفي مزاعم القدرة الإنسانية على معرفة الحقيقة، وأطلقت على هذا المسار الفكري «إرهاب الحقيقة»! وركزت على أن الحقيقة نسبية وليست مطلقة وأن لها وجوهاً متعددة وليس وجهاً وحيداً متفقاً.
وإذا هبطنا من ذرى التجريد الفلسفي إلى أرض الواقع، وحللنا عدداً من الأحداث الكبرى التي وقعت في مصر – على سبيل المثال – بعد ثورة 25 يناير، خصوصاً أحداث ما يعرف بالمصادمات الدامية في شارع «محمد محمود» بالقاهرة بين الثوار وقوات الأمن بعد أن حاولوا اقتحام مبنى وزارة الداخلية التي تقع في هذا الشارع، لأدركنا استحالة معرفة الحقيقة لكي توجه الاتهامات إلى ضباط أمن محددين قيل أنهم أطلقوا الرصاص على عدد من الشباب الثائر فوقعوا قتلى ومصابين، ولذلك ارتفعت الصيحات بأهمية القصاص للشهداء، وهناك أسئلة متعددة في هذه الحالة منها من الذي بدأ بالعنف واستخدم قنابل المولوتوف للهجوم على مبنى الداخلية؟
وهل كان ضباط الشرطة في موقف الدفاع الشرعي الذي يتيح لهم استخدام الذخيرة الحية أم لا؟
تعددت الإجابات على هذه الأسئلة الخطيرة. فالثوار يبرئون أنفسهم من أي عدوان قد يكونون ارتكبوه بل وبادروا به، وضباط الشرطة من ناحية أخرى يقررون أن واجبهم كان يقتضي منهم الدفاع عن مقر الوزارة. ومنع الموجات الهادرة من الثوار من اقتحامها.
هل يمكن في مثل هذا المشهد المعقد معرفة الحقيقة؟
وينبغي ألا ننسى في هذا المقام خصوصية المجتمعات العربية، ومن بينها «مصر» بطبيعة الحال وهي تتمثل في تقاليد «الإنكار» ونعني أن المتهمين في أي جريمة يعمدون عادة إلى إنكار ما ارتكبوا حتى لو كانت هناك دلائل قوية على اتهامهم. كما أنه في المجال السياسي يندر أن يعترف السياسيون بأخطائهم التي ارتكبوها، بل إنهم عادة ما ينكرون أنهم ارتكبوا أي خطأ!
وإذا كان من تقاليد العدالة الانتقالية الاعتراف بالخطأ والاعتذار العلني عنه تمهيداً للمصالحة بين الأطراف المتصارعة، فذلك يقتضي في الواقع رسوخ تقاليد النقد الذاتي في المجتمع، وهي للأسف غائبة. فالنقد الذاتي يمكن اعتباره فضيلة غربية بل إنه أحد أسباب تقدم الغرب، في حين أن ممارسته نادرة في المجتمع العربي المعاصر. وقد تكون بداياته المتواضعة تمثلت في النقد الذاتي الذي قدمه بعض المفكرين العرب وعلى رأسهم المؤرخ المعروف «قسطنطين زريق» بعد الهزيمة العربية في حرب فلسطين العام 1948 خصوصاً في كتابه «النكبة» الذي تحدث فيه عن أن سبب الهزيمة هي غياب التفكير العلمي من ناحية، والافتقاد إلى الديموقراطية من ناحية أخرى.
وقد تكون الموجة الثانية من موجات النقد الذاتي تمثلت على وجه الخصوص بعد الهزيمة العربية الساحقة في حرب حزيران (يونيو) 1967، والتي قادها الفيلسوف السوري «صادق جلال العظم» في كتابه الشهير «النقد الذاتي بعد الهزيمة».
غير أن هذه لحظات نادرة في التاريخ العربي المعاصر التي مارس فيها عدد من المفكرين والسياسيين النقد الذاتي.
ومن ثم يمكن القول إن النزوع إلى عدم الاعتراف بالأخطاء والامتناع عن النقد الذاتي أحد أسباب صعوبة تطبيق العدالة الاجتماعية في المجتمع العربي.
وإذا نظرنا من ناحية أخرى إلى إستراتيجية المحاسبة والقصاص لأدركنا أن شبكات النخب السياسية العربية المعقدة قد تمنع بعد الثورات من المحاسبة الحقيقية والقصاص ممن انتهكوا حقوق الإنسان.
وتبقى استراتيجية تطهير المؤسسات والتي يمكن في ظل التخلف العربي الراهن أن تتحول إلى «مكارثية» حقيقية إذا تم بقرارات إدارية وليس بأحكام قضائية فصل مئات الموظفين بدعوى التطهير. كما أن إستراتيجية الإصلاح المؤسسي يحول دون تطبيقها الفعال غياب نظرية إدارية حديثة قادرة على فك شفرة البيروقراطية العربية المعقدة والراسخة.
ولا تبقى إلا إستراتيجية «المصالحة» وهي تبدو مستحيلة لو نظرنا لحالة مصر، خصوصاً بعد 30 حزيران (يونيو) 2013 حيث تم عزل رئيس الجمهورية الإخواني الدكتور «محمد مرسي» واعتقل عشرات من قيادات «الإخوان المسلمين»، وأخيراً صدور حكم قضائي بحل الجماعة ومصادرة أموالها.
هل في ضوء هذه التطورات يمكن، أي مصالحة بين الأطراف المتصارعة؟
من هنا نميل للقول إلى أن تطبيق العدالة الانتقالية في المجتمع العربي يمثل نوعاً من الأوهام الشائعة والتي لا يمكن أن تتحقق على أرض الواقع!
(*) كاتب مصري
كلام الصور
1- كانط
2- د. قسطنطين زريق
3- د. صادق جلال العظم