الحقائق والعدالة (٭)

بقلم: ألان باديو (ترجمة: د. جلال بدلة) (*)

ما يجب أن ننطلق منه هو ما يلي: اللاعدالة واضحة بينما العدالة غامضة. ذلك أن من يخضع إلى اللاعدالة هو شاهد لا يمكن دحضه. لكن من سيشهد لمصلحة العدالة؟ هنالك انفعال يشير إلى اللاعدالة: معاناة، رفض. في المقابل، لا شيء يشير إلى العدالة التي لا تحضر كعرض مشهدي أو كإحساس.

أيجب إذًا الاستسلام للقول إن العدالة ليست إلا غياب اللاعدالة؟ هل هي النفي الفارغ لسلب مضاعف؟ لا أظن ذلك، كما أنني لا أتخيل أن تكون اللاعدالة إلى جانب المحسوس أو الخبرة أو ما هو ذاتي، وأن تكون العدالة، بالمقابل، إلى جانب المعقول أو العقل أو ما هو موضوعي. اللاعدالة ليست الفوضى الفورية لتكون حينها العدالةُ النظامَ المثالي.

إذا وضعنا جانبًا – كما ينبغي ذلك – الدلالة القضائية الشُرَطَية [البوليسية]، تبقى “العدالة” مصطلحًا فلسفيًا. إلا أن هذا المصطلح الفلسفي يخضع إلى السياسة. لأن الفلسفة ليس في مقدورها أن تحقق في العالم الحقائق التي تصل إليها. حتى أفلاطون يعلم أنه لكي تكون ثمة عدالة يجب طبعًا أن يكون الفيلسوف هو الملك، لكن تمامًا لا يتوقف الأمر أبدًا على الفلسفة لكي تكون هذه المَلَكِية ممكنة. فذلك يعتمد على الظرف السياسي الذي يبقى مهمًا جدًا.

ندعو “عدالة” ما من خلاله تشير فلسفةٌ ما إلى الحقيقة الممكنة لسياسةٍ ما. الأغلبية الحاسمة للسياسات العينية لا علاقة لها على الإطلاق بالحقيقة. ونحن على علمٍ بذلك، فهي عبارة عن تنظيم لمزيج من القوى والآراء. والذاتية التي يحركها هذا المزيج هي ذاتية المطالبة والاستياء؛ ذاتية القَبَلِية واللوبي؛ العدمية الانتخابية والمواجهة العمياء بين الجماعات. ليس للفلسفة شيء لتقوله عن كل ما سبق لأنها لا تتأمل إلا الفكر، وهذه السياسات تقدم نفسها علانية كـ لا-فكر. فالعنصر الذاتي الوحيد الذي تهتم به هو المنفعة.

بعض السياسات في التاريخ كان لها أو سيكون لها أيضًا علاقة ما مع حقيقةٍ ما؛ حقيقة الجمعي كما هو. تبقى هذه السياسات محاولات نادرة وغالبًا وجيزة. لكنها تبقى الوحيدة التي ضمن شروطها يمكن للفلسفة أن تفكر.

هذه المقتطفات السياسية هي حالات فردية، لا ترسم أي مصير ولا تشكل أي تاريخ بارز. يجب أن يشار إليها وفق النظام الاصطلاحي الذي اقترحه سيلفان لازاروس، أي ككيفيات تاريخية من داخل السياسة. ضمن هذه المقتطفات المتقطعة يمكن للفلسفة الإمساك بقاسم مشترك، وهو أن هذه السياسات لا تتطلَّب من الناس الذين يعملون وفقها إلا إنسانيتهم النوعية الخالصة. هي لا تشكل استثناءً فيما يخص مبادئ الفعل وخصوصية المصالح، إلا أنها تُدخلُ تمثُّلاً للقدرة الجمعية التي تُسند عواملها إلى المساواة الأكثر دقة.

 ماذا تعني هنا “المساواة”؟

 المساواة تعني أن يكون الفاعل السياسي ممثلاً في شروط القدرة المحض الإنسانية فقط. المصلحة ليست قدرة محض إنسانية. كل الكائنات الحية تتناول مصالحها تبعًا لضرورة البقاء. القدرة المحض الإنسانية هي تحديدًا الفكر، والفكر ليس شيئًا آخر إلا ما عبره يحيط مسار حقيقةٍ ما بالحيوان الإنساني ويحوله. وهكذا، فالسياسة التي تستحق أن تتناولها الفلسفة وفق فكرة العدالة هي تلك السياسة التي تأخذ كمسلمة عامة وحيدة التالي: البشر يفكرون والحقيقة في مقدورهم. فبالاعتراف القائم على تساوي دقيق لقدرة البشر على الحقيقة كان يفكر سان جوست عندما عرَّف الوعي أمام مؤتمر في آذار عام 1794 بقوله:

ليكن لديكم إذًا وعي جماهيري لأن كل القلوب متساوية عبر الإحساس بالشر وبالخير وهو مركب من ميل الشعب نحو الخير العام.

نجد المبدأ ذاته في مقتطف سياسي مختلف تمامًا خلال الثورة الثقافية في الصين؛ على سبيل المثال في القرار من ستة عشر نقطة في 8 آب 1966:

لتثقف الجماهير نفسها ضمن هذه الحركة الثورية العظيمة، لتحدث بذاتها الفرق بين ما هو عادل وما هو ليس كذلك.

وبالتالي فالسياسة تقترب من الحقيقة بمقدار ما تتأسس على المبدأ المساواتي لقدرة الإحاطة بمعنى العدالة أو الخير اللذين تفهمهما الفلسفة تحت دالة الحقيقة التي هي في مقدور الجمعي.

من الأهمية بمكان أن نلاحظ هنا أن كلمة “المساواة” ليست ذات دلالة موضوعية. لا يتعلق الأمر على الإطلاق بالمساواة بين الفرص أو الدخل أو الوظائف، كما لا تتعلق بالديناميكية المفترضة للعقود أو الإصلاحات. المساواة ذاتية. إنها المساواة عينها من وجهة نظر الوعي الجماهيري. ليست هذه المساواة بالنسبة ﻠـ سان جوست أو ضمن الحركة الشعبية السياسية كما يراها ماو تسي-تونغ برنامجًا اجتماعيًا على الإطلاق. ليس لها فضلاً عن ذلك أي علاقة مع النظام الاجتماعي. إنها قاعدة سلوكية، أو إلزام. المساواة السياسية ليست ما نريد أو ما نخطط له. إنها ما نعلن عنه في خضمِّ الحدث، ما نعلن عنه هنا والآن، كما هو كائن وليس كما يجب أن يكون. وهذا ينطبق على الفلسفة؛ “العدالة” لا يمكن أن تكون برنامجًا تعلن عنه الدولة، العدالة هي تقويم سياسة مساواة عندما تكون في حيز الفعل.

يتلخص مأزق معظم المذاهب التي تناولت العدالة في إرادة تعريفها ومن ثم البحث عن طرق تحقيقها في الواقع. إلا أن العدالة – وهي الاسم الفلسفي لمأثورة المساواة السياسية – لا يمكن أن تعرَّف، لأنها ليست هدفًا للفعل وإنما مسلمته البديهية. لا وجود لسياسة مرتبطة بالحقيقة من دون التأكيد (تأكيد ليس له ضمانة ولا برهان) على قدرة كلية على الحقيقة السياسية. لا يستطيع الفكر في هذه النقطة أن يسلك الطريق المدرسي للتعريف. عليه في ذلك أن يتبع طريق الفهم لمسلمة بديهية.

مفهوم العدالة

 “العدالة” ليست شيئًا آخر إلا كلمة من الكلمات التي تحاول عبرها الفلسفة الإمساك بمسلمة المساواة الملازمة لمقتطف سياسي حقيقي. هذه المسلمة ذاتها معطاة عبر أقوال فريدة مميزة، كتعريف الوعي الجماهيري لـ سان جوست أو أطروحة التثقيف الذاتي المستمر للحركة الشعبية الثورية التي دافع عنها ماو.

العدالة ليست مفهومًا علينا أن نبحث عن سبل تحقيقه التقريبية في العالم التجريبي. العدالة – كونها عامل فهم لكل سياسة قائمة على مبدأ المساواة، أي للسياسة الحقَّة – تشير إلى شكل ذاتي، فعلي، بدهي ومباشر. هذا ما يعطي رونقًا وعمقًا للقول المدهش لـ صامويل بيكيت في كيف يكون Comment c’est: “نحن في داخل العدالة على أية حال، ولم أسمع أبدًا من يقول العكس”. بالفعل، العدالة – التي تمسك بالمسلمة المضمرة لذات سياسية – تشير بالضرورة ليس إلى ما يجب أن يكون، لكن إلى ما هو كائن. إما أن تكون مسلمة المساواة حاضرة في الأقوال السياسة أو لا تكون. بالتالي إما أن نكون في داخل العدالة أو لا نكون، مما يعني أيضًا ما يلي: يوجد سياسة تواجه فيها الفلسفة فكرها أو لا وجود لهذه السياسة. لكن في حال كانت موجودة، في حال رجعنا إليها بشكل مستمر، فنحن في داخل العدالة.

كل مقاربة تعريفية أو برنامجية للعدالة تجعل من هذه الأخيرة بُعدًا من أبعاد نشاط الدولة. إلا أنه لا علاقة للدولة بالعدالة، لأن الدولة ليست صورة ذاتية ومسلماتية. الدولة، كما هي، غير مبالية، لا بل عدائية تجاه وجود سياسة غايتها التقرب من الحقائق. الدولة الحديثة لا تهدف إلا للقيام بوظائف معينة أو صناعة توافق جمعي. بُعدها الذاتي لا يهدف إلا إلى تحويل الضرورة الاقتصادية إلى إذعان أو استياء، وهذا هو المنطق الموضوعي لرأس المال. لذلك فكل تحديد برنامجي أو مرتبط بالدولة للعدالة يغير هذه الأخيرة إلى عكسها. وما تقوم به فعليًا حينها هو تحقيق الانسجام في لعبة المصالح. إلا أن العدالة (التي هي الاسم النظري لمسلمة المساواة) تحيل بالضرورة إلى ذاتية لانفعية بشكل كامل.

نستطيع صياغة ذلك بشكل مبسط: كل سياسة تحررية أو سياسة تحكم وفق قاعدة المساواة هي فكرٌ في حيز الفعل. إلا أن الفكر هو الكيفية الخاصة التي وفقها تَعْبُرُ حقيقةٌ ما وترقى بالحيوان الإنساني. وفي داخل عملية التذويت subjectivation هذه يتم تجاوز حد المصلحة لدرجة أن الإجراء السياسي ذاته يكون لا طائل منه. فمن الضروري إذًا – كما يتضح في كل المقتطفات السياسية التي تتعلق بالفلسفة – ألا تستطيع الدولة التعرف على شيء ضمن هذه السيرورة يكون ملائمًا لها.

العدالة والدولة

الدولة، في كينونتها، غير مبالية إزاء العدالة. بالمقابل، كل سياسة تكون فكرًا في حيز الفعل وفق قوتها وصلابتها تسبب مشاكل خطيرة للدولة. هنا يكمن سبب أن الحقيقة السياسية تظهر دائمًا في أوقات المحن والهزَّات. ينتج من ذلك أن العدالة، بعيدًا جدًا عن كونها مقولة ممكنة للنظام الاجتماعي أو المتعلق بالدولة، هي ما يعيِّن المبادئ حيز التنفيذ داخل القطيعة واللانظام. حتى أرسطو، الذي كانت غايته وهم الاستقرار السياسي، يقول في بداية الكتاب الخامس من السياسة:

يتمرد بشكلٍ عام وفعليًا كل مُطالب بالمساواة.

إلا أن تصور أرسطو هذا مرتبط أيضًا بالدولة. فكرته عن المساواة تجريبية وموضوعية وتعريفية. القول الفلسفي الحق هو بالأحرى ما يلي: الأقوال السياسية الحاملة للحقيقة تظهر في ظل غياب كل نظام اجتماعي أو متعلق بالدولة.

إن قاعدة المساواة المضمرة غريبة عن الدولة. والعنصر الذاتي للمساواة يؤكد نفسه دائمًا في ظل الاضطراب واللانظام. ما تسميه الفلسفة “عدالة” يمسك بالنظام الذاتي لقاعدة سلوكية معينة ضمن الفوضى الحتمية التي يعرِّض إليها النظامُ الدولةَ القائمة على المصالح.

وفي النهاية، ماذا يعني أن نحكم فلسفيًا، هنا والآن، على العدالة؟

هذا يعني أولاً معرفة إلى أي سياسات فريدة ننتمي، وأي سياسات تستحق أن تحاط بالفكر الخاص عبر مصادر الآلة الفلسفية التي تشكل كلمة العدالة قطعة منها.

في هذا العالم المشوش المضطرب الذي نعيشه اليوم، عندما يبدو أن رأس المال يظفر من داخل ضعفه الذاتي وأن ما هو كائن تحت اسم “السياسة الوحيدة” يختلط بشكل يرثى له مع ما يمكن أن يكون. كل هذا ليس بالعمل الضئيل. إن تحديد المقتطفات النادرة حيث تنشأ حقيقة سياسة معينة دون الإذعان إلى الترويج الدعائي الكاذب للنزعة البرلمانية الرأسمالية هو بحد ذاته عمل شاق للفكر. الأكثر صعوبة هو أن نحاول ضمن إطار العمل السياسي أن نكون مخلصين لكل مسلمة مساواة نجدها في الأقوال عبر التاريخ.

هذا يعني ثانيًا أن نحيط فلسفيًا بالسياسات موضع التساؤل، إنْ كانت من الماضي أو من الحاضر. فعملنا إذًا مضاعف:

1.     أن نفحص أقوالهم ووصوفاتهم وأن نستخلص منها نواة مسلمة المساواة ذات الدلالة الكلية.

2.     أن نحوِّل المقولة النوعية لـ”العدالة”، بإخضاعها إلى اختبار هذه الأقوال الفريدة، إلى كيفية خاصة لا يمكن اختزالها وتسري من خلالها هذه الأقوال لتندرج داخل الفعل أو مسلمة المساواة.

هذا يعني، في النهاية، إيضاح أن مقولة العدالة المحوَّلة بهذا الشكل تشير إلى شكل معاصر لذات سياسية وأنه من خلال هذا الشكل تضمن الفلسفة اندراجها تحت مسمياتها الخاصة في الأبدية التي هي في مقدورنا.

لهذه الذات السياسية أسماء عدة. سُمِّيت المواطن، ليس طبعًا بمعنى المُنتَخِب أو عضو المجلس البلدي ولكن بمعنى المواطن كما يظهر في إعلان فصيلة الرماح section des piques عام 1973. وسُمِّيت الثائر المحترف. وسُمِّيت المناضل في سبيل المصلحة العامة. الآن نحن في وقتٍ مازال فيه اسمها معلَّقًا. نحن في زمنٍ يجب أن نبحث فيه عن اسمٍ لهذه الذات السياسية.

اليوم نحن لا نمتلك ما كنَّا نمتلكه في الماضي من تاريخ – حتى وإن كان متقطَّعًا – أو مفهوم لما يمكن أن تشير إليه كلمة العدالة. نعلم ذلك تجريديًا بالطبع، لأن “العدالة” تعني دائمًا الإحاطة الفلسفية لمسلمة المساواة المضمرة. لكن لا طائل من هذا التجريد، لأن واجب الفلسفة هو الإحاطة بحدث الحقائق، وبجدَّتها، وبمسارها غير المستقر. ليس هو المفهوم ما توجهه الفلسفة نحو الأبدية كبعد مشترك للفكر، وإنما السيرورة الفذَّة لحقيقة معاصرة. والفلسفة تقضي من وقتها الخاص لتحاول أن تقوِّم فيما إذا كانت هذه السيرورة قادرة بدون خزي أو عار على تحمُّل فرضية عودتها الأبدية.

السياسات المعاصرة

هل دولة السياسات المعاصرة هي على النحو الذي يمكن فيه للفلسفة أن تُدرج فيها مقولة العدالة؟ ألا تجازف بذلك وتخلط الحابل بالنابل وتكرر الزعم المبتذل للحكومات بتحقيق العدالة؟ عندما نرى الكثير من “الفلاسفة” وهم يحاولون أن يمتلكوا فكريًا نهجًا خاصًا بالدولة قليل الحيلة فكريًا مثل المشروع الأوروبي، والديمقراطية بمعناها البرلماني الرأسمالي، والحرية بمعنى مجرد حرية الرأي، والقومويات المخزية؛ عندما نرى الفلسفة تجثو على هذا النحو على ركبتيها أمام أوثان الحاضر، لنا كل الحق طبعًا أن نكون متشائمين.

لكن على الرغم من هذا كلِّه، كانت شروط عمل الفلسفة صارمة على الدوام. كان مصير كلمات الفلسفة – لأن هذه الشروط لم تصن – الضلال والتحريف. مقتطفات سياسية كثيفة وُجِدَت في هذا القرن، وهناك مخلصين لهذه المقتطفات. هنا أو هناك وفي حالات لا يمكن مقارنتها بعد، بعض الأقوال تخفي وبشكل صارمٍ وعاصٍ مسلمة المساواة. هنالك حتى في فرنسا سياسة وبشكل فريد تلك التي أنا عضوٌ ومناضلٌ فيها، وهي سياسة المنظمة السياسية L’Organisation politique (لا أذكرها هنا إلا لكونها شرطًا ذاتيًا للفلسفة، أو لفلسفتي).

إن لانهيار الحكومات الاشتراكية ذاته بعدًا ايجابيًا. لكن على الرغم من ذلك يبقى انهيارًا. لا وجود لسياسة تستحق هذا الاسم إذا لم يكن لها من الانهيار نصيب. ومنذ ذلك الحين، ما فتئ الفراغ التاريخي الناتج عن هذا الانهيار يخلق الوحوش. إلا أن هذه الدول الإرهابية كانت تجسد الوهم الأقصى لعدالة معدَّة كالبنيان المرصوص، لعدالة يمكن أن تكون تحت شكل برنامج حكومي. الانهيار يؤكد – بالنسبة لذهنٍ فيلسوفٍ يقظ – سخف تصورٍ كهذا، وينأى بالعدالة والمساواة عن كل تجسد وهمي، ويعيد إدراجهم في وجودهم الحقيقي الرخو والصلب في الآن معًا، كإلزامٍ حر، كفكرٍ فاعل انطلاقًا من وباتجاه الجمعي المُدرك من حقيقة هذا الانهيار. إن انهيار الدول الاشتراكية يعلِّمنا أن طرق السياسة القائمة على مسلمة المساواة لا تمر عبر سلطة الدولة؛ يعلمنا أن الأمر مناط بتحديدٍ ذاتي دائم أو بمسلمة جمعية.

بعد كل شيء، منذ أفلاطون ومغامرته التعيسة في صقلية حتى الهلوسات الظرفية لهيدجر، مرورًا بالعلاقات المسالمة لهيجل بنابليون، من دون أن ننسى بالطبع أنه كان جنونًا من نيتشه الزعم بأنه “قسم تاريخ العالم إلى قسمين”؛ كل شيء يبرهن على أن من يعطي الفلسفة حقها في الوجود ليس التاريخ العام، وإنما ما كان الشاعر ملارميه يسميه “الفعل المُقتَصِر”، والذي يمكن أن يكون اسمًا للمقتطفات التي يمكن من خلالها فعليًا التفكير في السياسة في حيز الفعل.

لنكن سياسيًا مؤيدين للفعل المُقتَصِر، لنكن في الفلسفة أولئك الذين يخلِّدون شكل هذا الفعل من خلال إعادة تركيب المقولات حيث تبقى كلمة “العدالة” محورية.

تملكتنا غالبًا رغبة في أن تُؤسِّس العدالة ثبات الرابطة الاجتماعية، في الوقت الذي هي فيه لا تستطيع إلا أن تسمي اللحظات الأكثر تطرفًا لعدم الثبات، لأن أثر مسلمة المساواة هو تفكيك الروابط، ونزع الصبغة الاجتماعية عن الفكر، والتأكيد على حقوق اللامتناهي والأزلي ضد حساب المصالح. العدالة هي رهانٌ على الأزلي ضد المتناهي، وضد “الوجود من أجل الموت”، ذلك أنه وضمن البعد الذاتي للمساواة الذي نعلن عنه، لا نفع لشيء إلا لكلية هذا الإعلان وللنتائج الواقعية التي تنتج عنه.

العدالة هي الاسم الفلسفي لعدم الثبات المتعلق بالدولة والمجتمع لكل سياسة تقوم على المساواة. نستطيع هنا الانضمام إلى الإلهام الإعلاني والمبدئي للشاعر. قدَّم بول سولان بلا ريب كل ما يجب فهمه من كلمة “العدالة”، قدَّم الصورة الأكثر دقة عندما كتب قائلاً – وهنا أستطيع فعلاً إنهاء بحثي:

استند إلى اللاراسخات

هي نقفةٌ في الهاوية،

في دفاتر الخربشات

العالم يبدأ بالغليان،

والأمر مناط

بك وحدك.

ما هو هنا إذًا درس الشاعر؟ فيما يتعلق بالعدالة، حيث يجب الانطلاق من عدم الثبات، الحقيقة (وكيف يمكن للحقيقة أن تكون إلا كذلك) هي أن الأمر مناط بك وحدك. ذلك أنه ذاتيًا وليس بشكل جماعي تُعلَنُ وقفة المساواة التي تُحدث القطيعة وتقلب موازين الأمور في المسار الطبيعي للسياسات المحافظة.

***********

(*)  الفصل السادس من كتاب موجز في ما وراء السياسة (Abrégé de métapolitique, 1998).

(*) عن  موقع “معابر”

كلام الصور

1-   ألان بادي

2- 3- من رموز العدالة

4- هيدحر

5- هيفل

اترك رد