بقلم: عقبة زيدان
بسبب من تربيتنا المحافظة جداً والتي تجبرنا على أن ننظر إلى النّساء بعينين مغمضتين ووجه أحمر ينمّ عن خجل فائض عن الحدّ الطبيعي، وجدت نفسي في مرحلة من مراحل عمري أقع – دفعة واحدة – في إعصار من الجمال على هيئة فتاة فاتنة. كانت هي المرة الأولى التي أتحطم فيها، المرة الأولى التي أشعر فيها بخواء هائل وقاتل. ومن الدقائق الأولى، أثناء مراقبتي للفتاة، أصبحت مستسلماً ومنسحقاً تماماً، ووقعت في فخ الاستلاب النفسي والعقلي
وبحكم غبائي وعنجهيتي الفارغة، رحت أفكر في السبب الذي جعلني مستلباً لها، وفكرت في أنه عليّ التخلص من هذا السحر. وخلال أيام من الإرهاق وقراءة علم النفس والفلسفة
والمحاولات المتواصلة لتخفيف السحر، وصلت إلى نتيجة حتميّة: أنا على استعداد للموت من أجلها. أنا عبد ضعيف. وأعترف بأنني مصاب بالمازوخيّة ومحطم.
أعلن بودريارد أن “أكثر مشاعر النقص جديّة تتصل بالفتنة وليس باللذة، بالسحر وليس بإشباع جنسي أو حيوي ما”.
إذاً، فإن الإغواء الذي يفوح من المرأة، كان سبباً في قتلي على نحو عقلي. وهو نفسه الذي جعل روبرت غرين يقرأ تاريخ العالم، قراءة تتعلق حصراً بالإغواء القاتل: باريس تسبب بحرب من أجل هيلين طروادة؛ أنطوني خسر سلطته من أجل كليوباترا؛ ديماجيو لم يستطع أن يتعافى من مارلين مونرو؛ أرثر ميللر توقف عن الكتابة لسنوات وهو غارق في حب مونرو؛ نابليون أصبح أضحوكة بسبب جوزفين؛ الملك الصيني فوتشاي خسر مملكته بسبب الفاتنة هسي شيه.
غرين في كتابه “فن الإغواء”، يتحدث عن تاريخ الإغواء، من خلال علاقة رجال كبار بنساء فاتنات. إلا أن التاريخ لم يسجل حالات أكثر عمقاً ودراماتيكيّة حدثت وراح ضحيتها أناس شفافون ونساء ساحرات، لأنها لم تصل إلى مؤرخيه. إن التاريخ عبارة عن أشكال عدة من الإغواء: إغواء السلطة، إغواء المال، إغواء الرجل، إغواء المرأة، إغواء القراءة والكتابة، إغواء الحريّة والعدالة، إغواء الشهرة…
خطر الحوريّة في أنها تقتل على الفور، وتحرق مشاهدها بالرغبة في الخلاص من كل شيء عداها. إنها تجعله فاقداً للعقل، ومتبعاً لخطواتها الناعمة وصوتها الساحر. وهذا ما دفع أدويسيوس في الأوديسة، أثناء عبوره بأسطوله البحري أمام الحوريات، إلى أن يسد آذان جنوده بالشمع، ويربط نفسه بالصاري، كي يستطيع مقاومة غنائهن، وعدم القفز طرباً ونشوة إلى المياه والغرق.
يذكر جورجيو فارساي في كتابه “سير الفن في العصور القديمة” أن إغواء الفن وسحره أيضاً كان يدفع الرجال إلى الدخول إلى المعابد ليلاً وممارسة الحب مع التماثيل “وخصوصاً فينوس”، وكان يتم اكتشاف الأمر يومياً. وهكذا، فإن الفن يفعل فعله كعنصر إغواء خطير.
أشهر حوريتين في التاريخ، هما كليوباترا ونورما جاين مورتنسون “مارلين مونرو”، وأخطر صفاتهما أنهما كانتا تستطيعان حمل أي رجل على مطاردتهما بشكل محموم إلى درجة يفقد معها التحكّم بعقله وعواطفه. لقد جمعتا الخطر والبراءة والهشاشة، إضافة إلى كونهما تجسيداً للجنس والرغبة. إن الحوريّة، حسب غرين، تحول الرجل إلى حطام، ورغم ذلك يقترب منها أكثر ويتابع مطاردتها ويخضع لمشيئتها.
لم تكن أي من المرأتين مومساً، رغم أن الرومان اتهموا كليوباترا بالعهر، وانهال العالم كاملاً على مونرو بوصفها عاهرة حديثة ومومساً، خلبت عقول الملايين منذ طلتها الأولى على الشاشة. أثبتت الحوريتان أن الرجل ناقص، وأنهما تستطيعان أن تجعلاه يترك سلطته وحياته من أجلهما.
الإغواء إعلان عن قوة الغاوي وضعف الهدف، ويحقق الإغواء للطرف الغاوي قوة موجبة، ويقع المغوي في استلاب كامل وضعف. وتبدو قوة جون كنيدي وشخصيته الكاريزميّة، حقيقة فريدة في الإغواء، دفعت سياسيي العالم من بعده إلى التحلي بقدر من الكاريزما والحضور الآسر لإغواء الجمهور. وهذا – حسب غرين – نصف المعركة السياسيّة. ولم يأسر كنيدي جمهوره بلغة الأرقام والتفاصيل، بل بكلمات هوليووديّة عن الحريّة وبناء مجتمع جديد، وعن استعادة روح أمريكا الطليعيّة والرياديّة. وهكذا فإن النجم الهوليودي/ كنيدي، أصبح أسطورة في مخيلة الشعب الأميركي.
تشكل الأفكار إغواء فريداً، إذ حفزت كثيرين على طرح حياة بديلة، أكثر اكتمالاً وحباً وجمالاً. هذا الإغواء يولّد على الدوام ضحايا على المستويين الجسدي والنفسي، ولكنه يفسح المجال لتغيير العالم. يقول دينيس ديدرو: “أمنح عقلي الحريّة ليتبع أول فكرة حكيمة أو حمقاء تقدم نفسها، كما يجري شبابنا المنحلون – في جادة دي فوي – في أعقاب مومس ما، ومن ثم يتركونها ليطاردوا أخرى. أفكاري هي مومساتي”.
إغواء الأفكار جعل نيتشه يتحول إلى حطام إنسان نفسي وعقلي، ودفع بكارل ماركس إلى أن يحصر تفكيره برغيف خبز للفقراء، ويعجز عن التفكير برغيف خبز له ولأبنائه. كما أن الإغواء نفسه حرر رأس غاليليه من مكانه، وأحرق أدورنو برونو، ووضع روبسبير تحت المقصلة. وهكذا، فإن الإغواء لا يحول الناس إلى حطام فقط، بل يلغيهم من قائمة الحياة!
ولم ينفد مترجم هذا الكتاب منير سليمان من الوقوع في فخ الإغواء المعرفي، وهذا دفعه إلى طلب حقوقه من مؤلفه، ومن ثم سارع إلى ترخيص دار نشر ليصدره فيها، وصرف كل أمواله لإخراجه إلى النور.
كتبت مرة، عن مارلين مونرو، وعن سحرها الذي ما زال مستمراً إلى اليوم وفاعلاً في تاريخ العالم. إنها النسخة غير القابلة للتقليد رغم المحاولات الجادة والحثيثة من قبل كثيرات، ربما لأنها حوريّة تسربت من حكايات التاريخ الهوميروسي، ومُنحت صورة إغوائيّة فريدة، إضافة إلى الصوت الساحر الذي جلبته معها.
**********
(*) موقع الأوان