الأب كميل مبارك
حينَ تفرحُ السَّماءُ بعَوْدَةِ خاطِئ، ذاكَ يَعْني أَنَّ الفَرَحَ الإلَهِيَّ قَدْ غَمَرَ قُلُوبَ قِدِّيسيهِ ومَلائِكَتِه والأَبْرارِ والصِّديقين والجُلَّاسِ وسَادَاتِ النَّعيمِ، فَتَعيشُ السَّمَاءُ عُرْسَ الحُبِّ ومَهْرَجانَ السَّعادَة. فإذا كانَ هذا مَا يَحْصُلُ بعَوْدَةِ الخاطِئ فكَيْفَ إذًا بإعلانِ قَداسَةِ واحِدٍ منَ النَّاسِ الَّذين عاشُوا عُمْرَ الأَرضِ طَريقًا إلى السَّماء!؟
في الرَّابِعِ منْ أَيْلول، أَعْلَنَ الحَبْرُ الأَعْظَمُ البابا فرَنْسيس الأُمَّ تريزا دو كالكوتا قدِّيسَة، وكُلُّنا يَعْرِفُ مَسيرَةَ حَيَاةِ هذه الرَّاهِبَة الَّتي اخْتَلَفَتْ طَريقُ قَدَاسَتِها عنْ طُرُقِ مُعْظَم القِدِّسين، وجَمَعَها مَعَهُم الإيمَانُ المُطْلَقُ بالمَسيحِ ابْنِ الله الَّذي تَجَسَّدَ من مَرْيَم العَذْراء وتأَلَّمَ وماتَ وقامَ من أَجْلِ أَنْ يَمْحُوَ خَطَايَانا ويُخَلِّصَنا ويُعيدَنا لأَبيهِ السَّمَاوِيِّ.
الأُمُّ تريزا عاشَتْ فَقْرَ النَّاسِ وآلامَهُم وعَذَابَاتِهِم ومَرَضَهم وتَشْريدَهُم ومَوْتَهم على أَرْصِفَةِ الأَزِقَّة. عانَتْ مُعَاناتِهِم وبَكَتْ لِبُكائِهِم وعَطِشَتْ وجَاعَتْ وافْتَرَشَتِ الأَرْضَ بَرْدًا وحَرًّا، وكُلُّ ذلكَ عَمَلًا بِكَلِمَةِ المُعَلِّمِ، كًنْتُ جائِعًا فأَطْعَمْتُموني وعُرْيانًا فكَسَوْتُموني إلى آخِرِ مُسَلْسَلِ البُؤْسِ والظُّلْمِ الَّذي يُصيبُ النَّاسَ منْ قُساةِ القُلوبِ الَّذينَ صَمُّوا آذانَهُم وأَغْمَضوا عُيونَهُم فَرَفَضوا أَنْ يَسْمَعوا نِداءَ المَلْهوفِ واسْتِغاثَةَ المُحْتاج.
الأُمُّ تريزا هي السَّامِرِيُّ الصَّالِحُ الَّذي اعْتَنَى بِجَريحٍ على الطَّريقِ من دونِ أَنْ يَعْرِفَ اسْمَه أَو دينَه أَو عائِلَتَه أَو إمْكاناتِه المَادِيَّةَ، فذَهَبَتْ إلى واحِدَةٍ مِنْ أَفْقَرِ مُدُنِ العالَمِ حَيْثُ تَكْثُرُ المَآسي ويَفيضُ الحَصادُ ويَقِلُّ الفَعَلَةُ وتَشِحُّ الهِبَاتُ وتَعُزُّ العَطَايَا. هناكَ في كالْكوتا، نَظَرَتْ تريزا وتأَمَّلَتْ وتَحَرَّكَتْ بالعَمَلِ الجَادِّ مع مَنْ رَأَتْ على وُجوهِهِم البَائِسَةِ صورَةَ المَسيحِ يقولُ أَنا عَطْشَان. فَسَقَتْهُم مع المَاءِ الحبَّ والرَّحْمَةَ والغُفْرانَ والأُخُوَّةَ والإيمَانَ، كانَ قَلْبُها مائِدَةً ومُسْتَسْقًى ومُعَزِّيًا ومُرافِقًا في أَقْسَى ساعاتِ العُمْرِ.
لمْ تَلْتَفِتْ تريزا إلى مَوَائِدِ أَهْلِ السُّلْطانَيْنِ الرُّوحي والأَرْضي، ولمْ تَطْرَبْ لِقَرْقَعاتِ مَلاعِقِهِم وسَكَاكينِهِم، ولمْ تَخْمُرْ من رائِحَةِ خُمُورِهِم ولمْ تَشْهَقْ لأَطْباقِ الحَلْوى تَأْتي من أَفْخَمِ بُيوتِها ومَعَاجِنِها، بَلْ تَرَكَتْ هذه الأُمورَ لِمَنْ أَغْرَقَتْهُم الأَرْضُ في مَتاهاتِها، فأَمْضوا فُرْصَةَ خَلاصِهِم بصُحْبَةِ ذاكَ الغَنِيِّ الَّذي لمْ يَنْظُرْ ولَوْ بقَليلٍ من الاهْتِمامِ إلى لعازَر الَّذي كانَ مُنْطَرِحًا على بَابِه.
الأُمُّ تريزا دو كالْكوتا أُمْثُولَةٌ وقُدْوَةٌ لي ولَكُم ولِكُلِّ مَنْ لا يَتَعامَى عنْ رُؤْيَةِ الصَّالِحين الفاعِلين في كَرْمِ الرَّبِّ، قُدْوَةٌ لِمَنْ لمْ يَعْرِفْ بَعْد أَنَّ الحُبَّ طَريقُ السَّماء، وإنَّ اللهَ القادِرَ على كُلِّ شَيْء، قادِرٌ على إطْعامِ الجِياعِ ورَفْعِ الظُّلْمِ عن المَقْهورين، ولكِنَّه تَرَكَ لكَ أَيُّها الإنْسانُ فُرْصَةَ جَمْعِ يَدِكَ بيَدِهِ لتَعْمَلَ في حَقْلِهِ وتَرِثَ المَلَكوت.