مُورِيس وَدِيع النَجَّار
(أديب ونافد وشاعر)
مُنْذُ سَنَوَاتٍ، وَتَحدِيدًا فِي 28/8/2008، وَقَفْتُ عَلَى مِنْبَرِ هَذَا المِهْرَجَانِ الرَّائِدِ، وَأَنْشَدْتُ زَحْلَةَ شِعْرِي، مُتَغَزِّلًا بِجَمَالَاتِهَا، نَاسًا وَطَبِيْعَةً. وَاليَوْمَ أَعُوْدُ مَشُوْقًا إِلَيْهَا، لِأُنْشِدَهَا، فَمَا تُرَانِي أَقُوْل؟!
الحَمْدُ للهِ أَنَّ العَوْدَ هَوًى. وَالنَّشِيْدُ سَيَكُوْنُ أَزْوَدَ، لِأَنَّ الجَمَالَ، فِي مَدِيْنَةِ الجَمَالِ زَحْلَةَ، هُوَ مَعِيْنٌ مُتَجَدِّدٌ لا يَنْضُبُ، وَرِيْشَتِي لَمَّا تَزَلْ تَرْتَعِشُ أَمَامَ كُلِّ سِحْرٍ وَرُوَاء!
يا زَحْلُ! هانِي عائِدٌ، ولَهِيبُ يَكوِي فُؤَادًا قد دَهاهُ مَغِيبُ
زَهوِي يَطُولُ القُبَّةَ العُليَا، وفي حُمَّى شَرايِينِي يَضِجُّ وَجِيبُ
أَنا عائِدٌ، تَوقِي يُلِحُّ فَكَم دَهَى قَلبِي الِغيابُ، فَكِدتُ فيه أَذُوبُ
غَلَبَ الزَّمانُ صَباحَتِي لكنَّهُ في ساحِ شِعرِي، عاجِزٌ مَغلُوبُ
أَنا إِذ قَصَدتُكِ هَزَّ عُجْبٌ أَضلُعِي، دَمعِي هَمَى وَشْلًا، وليسَ نَحِيبُ
آتِيكِ، بِي وَلَهُ الغَرِيرِ بِغادَةٍ، وعلى ذُؤَاباتِي الشَّبابُ يَشِيبُ
آتٍ إلى البِردَونِ أَرشُفُ كَوثَرًا، في شَوقِ صادٍ كم بَراهُ لَهِيبُ
وأَعُبُّ مِنهُ ما يَبُلُّ حُشاشَةً ظَمأَى، وقَلبًا في البُعادِ يَلُوبُ!
مُذ جِئتُكِ الأُولَى، فَهَلَّلَ مِنبَرٌ، وشَدَت أَكُفٌّ، هَزَّها التَّشبِيبُ،
وأَنا أُعاوِدُ، لائِذًا بِمَرابِعٍ، أَرنُو إِليها والخَيالُ دَؤُوبُ
شَأنِي عَجِيبٌ مِثلَما شَأنُ الأُلَى هانُوا مَتَى خَطَرَ الدَّلالُ، عَجِيبُ
ومَطِيَّتِي شَوقِي، ومِحرابِي، وإِن شَطَّ المَزارُ، ففي هَواكِ قَرِيبُ
مَرَّ الشَّبابُ على إِهابِي عابِرًا، وأَنا على سُبُلِ البَهاءِ أَجُوبُ
يَبقَى الجَمالُ، على وَفِيرِ مَفاتِنٍ، مِن بَعدِ حُسنِكِ، شاحِبٌ، ورَتِيبُ
زَوَّدتِني سِرَّ العَبِيرِ فَباتَ في صَدرِي، مع الخَفَقاتِ، ليسَ يَغِيبُ
وأَنا ثَبَتُّ على الأَمانَةِ مُذ على البِردَونِ أَجَّجَ نَشوَتِي التَّطرِيبُ،
أَوتارُ تَشدُو، والخَمائِلُ نَضْرَةٌ، والرُّوحُ هَيْمَى، والجَمالُ لَعُوبُ
كان الزَّمانُ هَوًى فَهَلَّا، بَعدَ أَن غَضُّ الشَّبابِ هَوَى، يَهُلُّ نَسِيبُ؟!
سَأَظَلُّ وَلهَانًا بِـ”زَحْلَةَ” لو رَأَوْا مِنِّي الضَّلالَ، وطالَنِي التَّثرِيبُ!
يا زَحْلُ! قد نادَيتِنِي، فَأَنا هُنا، بَعدَ الغِيابِ، على نِداكِ أُجِيبُ
أَنا جِئتُ أَرضَكِ لَيسَ في ما أَبتَغِي إِلَّا هَواكِ، فَسِحرُكِ المَطلُوبُ
أَنا، إِن نَأَت دارِي، فَقَلبِي لم يَزَل رَهْنٌ لِحُبِّكِ.. والوُلُوعُ ضُروُبُ
هل كُنتُ يَومًا في رِحابِكِ طارِئًا؟! هل قُلتِ إِنِّي، إِذ وَفَدتُ، غَرِيبُ؟!
مِن كُوْرَتِي أُهدِيكِ أَطيَبَ قُبلَةٍ هي، إِن ذُكِرتِ بِعَثرَةٍ، لَتَذُوبُ
وكما يَطِيبُ بِفَيئِها حُبِّي ففي رَحَباتِكِ الأَحلَى الهُيامُ يَطِيبُ
هي ذلك الزَّيتُونُ، خَيرٌ رِفْدُهُ، قُوْتُ الفَقِيرِ، وكَنزُهُ المَحجُوبُ
وعلى المَوائِدِ ساحِرانِ تَباهَيا: عَرَقُ “الزُّحَيْلِ”، وزَيتُنا المَحبُوبُ!
زَحْلَه! فَدَيتُكِ، دِرنا، لو حافَنا ضَيمٌ، وحاقَت بِالرُّبُوعِ خُطُوبُ
مَن لِلحُسامِ، على الوَغَى، إِلَّاكِ، يا أَرضَ الأَماجِدِ، والزَّمانُ كُرُوبُ
مَرَّت عليكِ جَحافِلٌ، لم يَنْحَنِ، لَكِ، في رَحاها، الصَّارِمُ المَرهُوبُ
أَعطَيتِ للدُّنيا، كما لم تُعْطِها كُبرَى الحَواضِرِ، في المَدَى، وشُعُوبُ،
أُدَباءَ، في ساحِ الحُرُوفِ فَوارِسًا، وسِهامُهُم حَرَمَ الصَّمِيمِ تُصِيبُ
أَعلَوْا لِأَسمَى الشِّعرِ، أَرهَفَ مَنزِلٍ، فَبَيانُهُم، بَوْحُ الضُّلُوعِ، صَلِيبُ
شِعرُ “المَعالِفِ”(1) وَ”السَّعِيدِ”(2) كَأَنَّهُ عِطرٌ يَهُبُّ، فَلا يَخِفُّ هُبُوبُ
تَشدُو به الأَوتارُ، سَكْرَى، فَالمَدَى نَغَمٌ، وحادِي القافِلاتِ طَرُوبُ
وأَتاكِ مِن بارِيسَ صائِغُ(3) لُؤْلُؤٍ ضافٍ نَداهُ، وفي الخِصال نَجِيبُ
صاغَ القَريضَ، فما قَريضٌ صَوغُه، هو مِن ذُرَى جَبَلِ الأُولِمْبِ طُيُوبُ
وغَدَوتِ نَبعَ أَئِمَّةٍ في الشِّعرِ، ما وَشَمَت هَناتٌ بَدْعَهُم وعُيُوبُ
زانُوا الرِّقاعَ، فلم يَكُن في شِعرِهِم، نَزْرٌ يَحُطُّ مِنَ السَّنَا وَيَشُوبُ
زَحْلَه! أَيا هِبَةَ السَّماءِ لِأَرضِنا، ذُخْرًا أَضَعنا، مِ الجِنَانِ، يَؤُوْبُ
يا جارَةَ الغَيمِ السَّخِيِّ على الرُّبَى، ونَجِيَّةَ “البِردَونِ”، وهْوَ صَخُوبُ،
وَسَمِيرَةَ الكَرمِ المُعَرِّشِ فَوقَهُ ذَهَبٌ كَوَجناتِ الحِسانِ قَشِيبُ
يا مَلْكَةً، ثَلجُ الذُّرَى تاجٌ لها، وعلى مَواطِئِها الأَدِيمُ عَشِيبُ،
والسَّهلُ يَرنُو نَحوَها بِتَوَلُّهٍ، أَيْدٍ سِماحٌ، والمَطَلُّ خَصِيبُ
هَلاَّ رَوَيتِ مَفاخِرَ الفُرسان قد ضاقَت ذُرًى، بِجِيادِهِم، وسُهُوبُ
يا واحَةً في رَحْبِها الجَوَّادِ كم رَصَفَ اللَّآلِئَ شاعِرٌ، وأَدِيبُ
هَلاَّ قَصَصتِ لنا سَرائِرَ مَن شَدَوْا في رَبعِكِ الأَندَى، ورانَ غُروُبُ
“شَوقِي”(4) وأَندادٌ غَدَوتِ لِفِكرِهِم ما جادَ عَبْقَرُ، مِن رُؤًى، وغُيُوبُ
هَلاَّ رَسَمتِ لنا لَيالِي مَعشَرٍ، والمَجلِسُ الرَّاقِي أَغَرُّ، رَطِيبُ،
مَلأُوا سَماءَكِ أَنجُمًا بِنَسِيبِهِم؛ ما حالَ هَمٌّ، أَو أَعاقَ مَشِيبُ
أُمَراءَ كانوا، مُلكُهُم أَقلامُهُم، ومِدادُهُم، وخَيالُهُم، والكُوْبُ
يَبقَوْنَ مِشعالًا مُضِيئًا لِلدُّنَى، وطُغاتُها خَلفَ السِّتارِ نُدُوبُ!
يا زَحْلُ! قد أَفنَيتُ عُمرِي في الهَوَى، وظَنَنتُ، بعد ضَلالَتِي، سَأَتُوبُ،
ونَفَضتُ أَردانَ الشَّبابِ، تَزَهُّدًا، فلكم تَراكَمَ، في رِداهُ، ذُنُوبُ
ولَبِستُ جِلبابَ الحَكِيمِ، فكان لي نَحوَ الرَّصانَةِ، قِبلَةٌ، ودُرُوبُ
حتَّى أَتَيتُكِ! فاستَعَدتُ صَبابَتِي، ورَأَيتُ ما جَعَلَ الفُؤَادَ يَثُوبُ،
مِن سِحْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ، فَتَّانَةٍ، نَيْسانُ وَشَّحَها، فَضاعَ الطِّيبُ
تَغزُو القُلُوبَ، فلا مَشِيبٌ يَرعَوِي، أَو يُسكِتُ الجَهلَ المُطِلَّ رَقِيبُ
يا زَحْلُ بي، مِن عُنفُوانِكِ، شَمخَةٌ ومَدَى الجَوارِحِ هَزَّةٌ، ووُثُوبُ،
وبِكُلِّ أُنْسٍ، في رِحابِكِ، لي هَوًى، وبِكُلِّ ساحِرَةِ الجُفُونِ حَبِيبُ
هَلاَّ حَنَوتِ عَلَيَّ، صَبًّا عائِدًا، تَسبِيهِ، فِيكِ، لَواحِظٌ، وقُلُوبُ
أَنتِ الطَّبِيبُ، فهل لِمُضنًى أَن يَرَى بُرْءًا، وعَزَّ، على الفِراقِ، طَبِيبُ؟!
سَلَبَت سِنُوُّ العُمرِ كُلَّ نَضارَتِي فَفُؤادِيَ المُضنَى جَوٍ، وكَئِيبُ
فَلَسَوفُ أَنذُرُ، لِلهَوَى بِحِماكِ، ما أَبقَى الشَّبابُ، وقد عَراهُ شُحُوبُ
فأَنا بِمِحرابِ المَفاتِنِ عابِدٌ، وأَنا بِحِضنِكِ عاشِقٌ مَسلُوبُ!
زَحلاء! سَيفُكِ، في دُجانا، شُعلَةٌ، ووَقارُ ذِكرِكِ، في الأَنامِ، مَهِيبُ
لُبنانُ يَبقَى، ما بَقِيتِ، بِعِزَّةٍ ومَداهُ، دُونَكِ، كالِحٌ وجَدِيبُ!
***
(1): هُمُ الشُعَراءُ المَعالِفَةُ فَوزِي وشَفِيق ورِياض ومِيشال وغَيرُهُم.
(2): هو الشَّاعِرُ سَعِيد عَقْل.
(3): هو الشَّاعِرُ جُوزف صايِغ الَّذي يَقضِي الشِّتاءَ في بارِيسَ والصَّيفَ في زَحلَة.
(4): هو أَمِيرُ الشُّعَراءِ أَحمَد شَوقِي، وكان يَصطافُ في زَحلَةَ أَحيانًا
***
(*) أُلقِيَت فِي مِهرَجَانِ زَحلَةَ الشِّعرِيِّ، فِي أُوتِيل قادِرِي، بِتَارِيخِ 18 – 8- 2016.