كلود أبو شقرا
حجراً فوق حجر، سنة بعد سنة ارتفعت نحو النجوم وكتبت قصتها الخالدة ألوانًا وأضواءً وخطوطًا على الزجاج، واحتضنت تماثيل عصبة على الزمن ظاهرها أشكال ملوك وقديسين وباطنها إيمان عميق بقدرة الإنسان على مشاركة الخالق في فعل الإبداع… أدخلت العالم في عصر الكاتدرائيات، وتغنى بها الشعراء وألهمت الروائيين وغناها التروبادور… صنعت مجدًا عظيمًا مستمرًا في الزمن والتاريخ منذ 850 عامًا.
كاتدرائية “نوتردام دو باري”، المنتفضة أبدًا على عوامل الدهر، تعانق قرنًا تلو قرن، تعبق بجمالياته وتشهد على أحداثه وتشارك في صنع تاريخه… وهي اليوم ترتدي أبهى حللها، وتفتح قلبها الكبير أمام الزوار لاكتشاف كنوزها في مسيرة إيمانية روحانية تظللها كلمات القديس أغسطينوس: “أنا على الطريق التي تبحث عن مسافرين”. تستمرّ الاحتفالات لغاية 23 تشرين الثاني 2013، وتشمل معرض “ألوان من السماء”، معرض كتب ومخطوطات، تجديد الأجراس، عرض “تاج الشوك”، معرض الأواني الكنسية والثياب الليتورجية…
احتفالات طريق الـ 850 عامًا برعاية رئيس الجمهورية الفرنسي فرانسوا هولاند، الكاردينال أندريه فانتروا رئيس أساقفة باريس، وزير الثقافة الفرنسي، عمدة باريس، السيد جاك شيراك. في المناسبة تصدر دائرة البريد الفرنسية طابعين يمثلان العذراء حاملة ابنها الطفل يسوع.
محطالت في كاتدرائية
تقع كاتدرائية “نوتردام دو باري” في الجانب الشرقي من إيل دولا سيتي ) جزيرة المدينة) على نهر السين أي في قلب باريس التاريخي. تعتبر تحفة الفن والعمارة القوطية (gothique ) اللذين سادا في القرن الثاني عشر حتى بداية القرن السادس عشر، وتعد من أهم المعالم التاريخية في العالم. النسخة الأولى من نوتردام كانت كنيسة بديعة بناها شيلدبرت الأول ملك الفرنجة عام 528 ، وأصبحت كاتدرائية مدينة باريس في القرن العاشر.
أدى موقع كاتدرائية نوتردام دورًا دينيًا لالفي سنة على الأقل، ففي العهود الرومانية اقيم عليه معبد لجوبيتير، وبالإمكان مشاهدة آثار حجرية اكتشفت عام 1711 في متحف القرون الوسطى. شيدت كنيسة القديس استيفان في القرن الرابع، تبعتها بعد قرن كنيسة ثانية أهديت إلى سيدة باريس، إلا أن الحروب المتتالية تركت الكنيستين بحالة مزرية، فقرر اسقف باريس موريس دو سولي استبدالهما بكاتدرائية، وبدا بناء القسم الأساسي من نوتردام عام 1163 في عهد لويس السابع واستغرق بناؤها 167 عامًا. بين 1210 و 1220، بدأ بناء البرجين وقاعة كبيرة تحت البرج، تم الانتهاء من البناء حوالي 1245. واستمر العمل على الناحية الفنية فيها لغاية عام 1345.
تنتصب عبر المداخل الغربية الثلاثة للكاتدرائية التماثيل الـ 28 لصالة الملوك وقد تم ترميمها في القرن التاسع عشر، بعدما دمرتها الثورة الفرنسية، لاعتقاد الثوار بأنها تمثل ملوك فرنسا، غير أنه تم أخيرًا اكتشاف 21 منها حفظت في متحف القرون الوسطى. أما النافذة الوردية المركزية فتصور الخلاص، وتضيء النافذتان الورديتان الأخريان جناح الكاتدرائية، بينما تحتفظ النافذة الشمالية بمعظم قطعها الزجاجية العائدة إلى القرن الرابع عشر.
بوابات الغرب الثلاثة تشكل أمثلة رائعة من العمارة القوطية، تصور حياة مريم العذراء، ويوم القيامة ومشاهد من حياة القديسة حنة (والدة العذراء مريم). يتميز تصميم هذه البوابات والنوافذ والزجاج الملون بروعة زادها تراكم السنوات توهجًا وفرحًا بصريًا. في يمين مدخل الكورس توجد لوحة من القرن الرابع عشر تمثل العذراء والطفل يسوع وترمز إلى اسم الكاتدرائية سيدة باريس. ترتفع قبتها حوالى 33 متراً.
المهندس المعماري الأصلي للكاتدرائية غير معروف إلا أن بيير دو مونروي يعتبر مسؤولا عن قسم كبير من العمل الذي تم في القرن الثالث عشر، أما الهندسة الحالية فتعود في معظمها إلى اوجين فيولي لو دوق. وقد وقعت اضرار جسيمة في الكاتدرائية أثناء الثورة وجردت من رموزها الدينية، إلا أن رواية فيكتور هوغو “أحدب نوتردام” الهمت الدعم الشعبي لأعمال الترميم المكلفة.
خلال الثورة الفرنسية في عام 1793، دمرت تماثيل وقطع أثرية وبوابات ومذابح عدة، واستبدل تمثال مريم العذراء بتمثال سيدة الحرية. بعد الثورة استغرقت أعمال الترميم في الكاتدرائية، باشراف المهندسين المعماريين جان باتيست أنطوان Lassus وفيوليت لو دوك، 23 عامًا.
الكاتدرائية هي الأكثر شعبية في فرنسا، وحتى أكثر شعبية من برج إيفل في باريس، يزورها 20 مليون سائح سنويا، وهي كاتدرائية الأبرشية الكاثوليكية في باريس وتجري فيها مناسبات دينية كثيرة. شهدت عبر تاريخها الطويل أحداثًا مهمة: دخلها لويس التاسع حافي القدمين حاملا كنزه المقدس “تاج الاشواك (1239)، كانت شاهدة على ذل فرنسا عند تتويج هنري الرابع ملك انكلترا ملكًا فيها (1430)، اعتنق هنري السادس المذهب الكاثوليكي فيها ما أحكم سيطرته على عرش فرنسا (1594)، أما نابليون فتوج نفسه امبراطورًا فيها، واحتفل الجنرال ديغول بتحرير باريس فيها (1944)، وأقيمت الصلاة لراحة نفسه في أرجائها بعد وفاته (1970)، كذلك نظم فيها حفل تأبيني لرحيل فرنسوا متيران (1996).
عودة الأجراس
ضمن الاحتفالات بمرور 850 عامًا على تشييد كاتدرائية “نوتردام دو باري”، حضر الآلاف من جنسيات مختلفة لمشاهدة الأجراس التسعة الجديدة التي تزن 43 طنا وستقرع في 23 آذار أي في أحد الشعانين، وقد بارك الكاردينال أندريه فانتروا الأجراس الجديدة في إحتفال ديني وشعبي. ستستعيد الأجراس النغمة الأولى التي كانت عليها في العصور الوسطى، بحسب المونسنيور باتريك جاكان، راعي الكاتدرائية، وفاقت كلفة ترميم الأجراس القديمة وصب أجراس جديدة مليوني يورو، جُمعت من التبرعات وليس من ميزانية الحكومة، عملا بمبدأ فصل الدين عن الدولة.
الأجراس ضخمة من البرونز يزن كل واحد منها ستة أطنان ونصف طن وهو نفس حجم الأجراس القديمة الأصيلة، صبّت في منطقة النورماندي، ستحل محل مجموعة من الأجراس ذات رنين متنافر علقت في قباب الكاتدرائية بدل الأجراس الأصلية التي انزلت خلال الثورة الفرنسية (1789)، وذوبت وصُنع من معدنها مدافع.
الأجراس التي يتراوح قطرها بين متر ومترين هي: ماري (6 أطنان من النحاس والقصدير)، غابريال (4,1 أطنان)، آن جنفييف (3,4 أطنان)، دوني (2,5 طن)، مارسيل (1,9 طن)، إتيان (1,5 طن)، بونوا جوزف (1,3 طن)، موريس (1 طن)، جان ماري (782 كيلوغراما). وثمانية من هذه الاجراس صنعت في مسبكة كورنييل هافار في فرنسا العائدة الى القرن التاسع عشر وستنصب في البرج الشمالي للكاتدرائية. أما الجرس الأثقل وزنًا ماري، فأنجز في مسبكة “رويال إيبوتز” في آستن في هولندا قبل ان ينقل إلى المسبكة الفرنسية، وسينصب في البرج الجنوبي إلى جانب الجرس إيمانول (330 عامًا و13٫2 طناً) الوحيد الذي قاوم ويلات الزمن. المجموعة الجديدة من الاجراس التي استغرق صنعها سنة كاملة مصممة لتصمد 200 الى 300 سنة.
معارض
سلسلة من المعارض تنظم ضمن اجتفالية الكاتدرائية أبرزها: “ألوان السماء”، يقدم نظرة استعادية للرسم في القرن السابع عشر، ويتضمن 120 لوحة من كنائس باريس تجتمع للمرة الأولى في معرض واحد، من بينها: “سجود الرعاة أمام الطفل يسوع” للرسام Hiéronymus Francken (1540- 1610)، “ميلاد يسوع” للرسامين Louis et Mathieu Le Nain ، “العذراء المتألمة” للرسام Lubin Baugin (1610-1663).
معرض كتب نوتردام بين القرنين الحادي عشر والثامن عشر، يجمع مخطوطات وكتبًا نادرة حول نشاطات الكاتدرائية في القرون الوسطى لغاية الثورة الفرنسية، عظات الأساقفة الكبار بين القرنين الرابع عشر والخامس عشر، الطقوس الليتورجية، علاقة الكاتدرائية بمملكة فرنسا… وهي في مجملها تشكل إرثًا أدبيًا وروحياً استثنائيًا.
معرض كنوز نوتردام، يتضمن الكؤوس والملابس ومختلف الأدوات التي تستعمل في الاحتفالات الليتورجية وتعود إلى العهود الأولى لبناء الكاتدرائية…
إكليل الشوك المقدس
في كل يوم جمعة على مدى الصوم الكبير تعرض الكاتدرائية إكليل الشوك المقدس المحفوظ ضمن تاج من ذهب، وهذا التاج هو الأكثر إكرامًا وقداسة لأنه يتضمن قطعة من خشب الصليب المقدس التي حملتها معها القديسة هيلانة وأحد المسامير التي دقت في جسم السيد المسيح وإكليل الشوك. رغم أن الدراسات لم تؤكد أصالة ما يحتويه التاج، إلا أن المؤكد إلى أنه ينبض بـ 16 قرنًا من الصلوات التي أقيمت أمامه.
تجديد الأورغ الكبير
يعتبر الأورغ الكبير في الكاتدرائية الأهم في العالم ، منذ صنعه في القرن الخامس عشر، عزفت عليه أجمل الألحان الدينية، وقدم آلاف العازفين من القارات الخمس أعمالا لأهم المؤلفين الموسيقيين العالميين.
في الأدب والمسرح والسينما
كتب فيكتور هوغو روايات عدة قبل أن يبدع رائعته “أحدب نوتردام” (1831) التي تقوم حبكتها على الصراع بين متضادّين، وتكمن أهمية هذه الرواية في الوصف الدقيق والخيالي في إبداع الشخصيات وتصوير طبائعها، واتخاذ كاتدرائية نوتردام دو باري مسرحًا لأحداثها. وصف الشاعر الفرنسي ألفونس دي لامارتين (1790-1869) فيكتور هوغو بعد ظهور الرواية بـ “شكسبير الرواية”، وتعتبر من أفضل مئة كتاب في تاريخ البشرية.
اتخذ فيكتور هوغو في روايته موقفًا ضد الظلم وغياب العدل وأنصت إلى صوت الضعفاء والمحرومين. تتحمور ة حول رجل أحدب مشوّه يقع في حب إزمرالدا وهي شابة جميلة، فنجح هوغو في تصوير قمة البشاعة في شكل الأحدب وقمة الجمال والدفء الإنساني في روحه وقلبه، وحاول أكثر من مرة التضحية بحياته لكي لا يحرم الوجود من جمالها. لذا لم يكن مجرد حب رجل لامرأة، إنما أدرك هو الأحدب أن فناء جسده القبيح يعنى استمرارية أعماقه الإنسانية الجميلة.
ظل أحدب نوتردام قابعًا خلف جدران الكاتدرائية، منعزلا عن العالم، لأن المجتمع يعزل العاهة ويخفيها ويحتقر الضعيف وينهش المحرومين، فتحول إلى كيان منعدم حتى أنارت داخله شرارة متمثلة في جمال امرأة، فأحدث تغييرُا لم يكن متوقعًا…
منذ صدورها قدمت رواية فيكتور هوغو على المسارح وأضفى عليها المسرحيون أبعادًا إنسانية وفنية تتلاءم والعصر الذي تقدم فيه. من أبرز العروض في السنوات الأخيرة “نوتردام دو باري” التي قدمت للمرة الأولى في 16 أيلول 1998 في قصر المؤتمرات في باريس، سيناريو لوك بلاموندون، تأليف موسيقي ريشار كوشيانتي ، إخراج جيل ماهو. ومن باريس انتقلت المسرحية إلى بلجيكا وسويسرا وكيبيك، وقدمت نسخة مختصرة بالإنكليزية في لاس فيغاس( 2000 )وفي لندن ومونتريال. اقتبست منها نسخة إيطالية قدمت في روما، ونسخة بالروسية قدمت في موسكو. بعد ذلك جالت المسرحية في بكين، شانغهاي، سيول، تايوان (2005) وباشرت جولة عالمية (2009).
حطت المسرحية رحالها في لبنان وقدمت عرضًا ضمن مهرجانات بيت الدين (2001 )، ثم عادت إلى بيروت في تموز 2012 وقدمت عرضًا في البيال.
أما في السينما، فقدمت أفلام عدة مستوحاة من الرواية الخالدة واتخذت العنوان نفسه “أحدب نوتردام”، أولها عام 1923 بطولة: والاس وورسلي، لون شاني. الثاني 1939 بطولة: وليام ديترل، تشارلز لوتن، مورين أوهارا. الثالث 1956 بطولة: جين دلانوي، أنتوني كوين، جينا لولوبريجيدا. الرابع 1982 بطولة: مايكل تكنر، أنتوني هوبكينز، ديرك جاكوبي، جون جيلغود، ليسليان داون. الخامس 1997 بطولة: بيتر ميداك، ماندي باتينكين، ريتشارد هاريس، سلمى حايك، إدوارد أترتون، بنديك.