خالد غزال
4 ــ اليمن
ينتشر الإسلام السياسي في اليمن عبر تنظيمين رئيسيين هما التجمع اليمني للإصلاح وحركة الحوثيين، يضاف إليهم تنظيم القاعدة الذي يعمل بنشاط اليوم، ويدعو إلى تكريس الشريعة الإسلامية بالعنف المسلح. يعتبر التجمع اليمني للإصلاح الفرع المحلي لحركة الإخوان المسلمين، لكنه في الواقع أشبه بتنظيم يحوي داخله منوعات من الإخوان والوهابية والمصالح القبلية.. كان على علاقة وثيقة بالمملكة العربية السعودية. يدعو إلى التمسك بالإسلام عقيدة وشريعة، وبناء اقتصاد وطني نابع أيضاً من الشريعة الإسلامية. يلخص عمرو حمزاوي وناثان براون واقع وطبيعة التجمع اليمني بالقول :”يشترك التجمع اليمني للإصلاح مع الأحزاب والحركات الإسلامية الأخرى الناشطة في العالم العربي في بعض خصائصه الرئيسية،
فهو على غرارهم، يمتلك أيديولوجية وبرنامجاً يستندان إلى المرجعية الديينة. كما أنه دأب على المشاركة في العمل الحزبي بهدف تحقيق إصلاحات دستورية وسياسية واقتصادية – اجتماعية. كذلك، بات التجمع تدريجياً ملتزماً بالإجراءات الديمقراطية سواء على المستوى الحزبي الداخلي أو أيضاً على نطاق السياسات اليمنية ككل. وبالتالي، هذه الخصائص المشتركة تبرر اعتبار التجمع حزباً إسلامياً. ومع ذلك يختلف التجمع عن معظم الإسلاميين العرب من جوانب عدة : فهو يجمع بين التأثيرات القبلية، وبين تأثيرات جماعة الإخوان المسلمين والمجموعات السلفية اليمنية. ومقارنة مع الإسلاميين في أماكن أخرى، أظهر التجمع درجة أعلى من الانقسامات الداخلية حول مسائل رئيسة، مثل علاقته بالنظام الحاكم، ومشاركة النساء في الحياة السياسية، وكيفية تفسير برنامج الحزب الإسلامي وترجمته إلى إجراءات سياسية” ( ناثان براون وعمرو حمزاوي، بين الدين والسياسة، الإسلاميون في البرلمانات العربية، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ومركز كارنيغي للشرق الاوسط، بيروت، 2011، ص 226 – 227 ).
يشكل الحوثيون طرفاً أساسياً في اليمن، تطور نفوذهم في الأعوام الأخيرة عبر التدخل الإيراني والدعم المالي والتسليحي المقدم لهم. اسمهم الأصلي “حركة أنصار الله”، وهي حركة سياسية دينية مسلحة تتخذ من مدينة صعدة مركزًا لها، عرفت “بالحوثيين” نسبة إلى مؤسسها حسين الحوثي الذي كان الأب الروحي للجماعة، والذي قضى على يد السلطات اليمنية عام 2004. تنتمي الحركة، قيادة وأعضاء إلى المذهب الزيدي في الإسلام. الحركة متهمة من قبل السلطة اليمنية والمملكة العربية السعودية بأنها تابعة لإيران التي تتدخل في الجزيرة العربية وتمد نفوذها وتنشر مذهبها الشيعي من خلال احتواء تنظيمات لا تقف على نفس الإتجاه العقائدي مع المذهب السني أو الوهابي. اعتقلت السلطات اليمنية عددًا من الشبكات التي اتهمتها بالتجسس لإيران، وهي مجموعات تنتمي إلى الحركة الحوثية.
يمارس تنظيم القاعدة نشاطاً مسلحاً واسعاً داخل اليمن، ويحتل مناطق فيها، وهو على تداخل مع القبائل. انحسر دور التنظيم عند اندلاع الانتفاضة ونزول الجماهير إلى الشارع، لكنه عاد ليزدهر مع الأزمة السياسية التي تعيشها اليمن والصراع على السلطة فيها. وفرت الاضطرابات السياسية في اليمن فرصة ذهبية لتنظيم القاعدة لتوسيع أنشطته وتقوية شوكته.
تدرس الدكتور باسمة رو هذه الظاهرة وتأثير انشغال الحكومة المركزية بمواجهة التظاهرات وقمعها وكيف “سهّل لأفراد التنظيم السيطرة على المنشآت الحكومية، واستغلال معاناة السكان، وتصعيد الهجمات، لاسيما في جنوب اليمن وشرقه، خاصة محافظات أبين وشبوة ومأرب والجوف وحضرموت. وأصبحت اليمن واجهة جديدة وملاذاَ استراتيجياً آمناً للقاعدة بعد تراجع أنشطتها في العراق والمملكة العربية السعودية”. وجدير بالذكر أن نشاطات التنظيم تصاعدت بشكل ملحوظ عقب دمج الفرعين اليمني والسعودي من القاعدة في فرع واحد يدعى ” تنظيم قاعدة الجهاد في جزيرة العرب” في يناير/ كانون الثاني عام 2009.
وتضيف الكاتبة :”فبنية التنظيم وأيديولوجيته ساعدته على تخطي الأزمات التي أعقبت وفاة قادته البارزين. كما عزز عدم الاستقرار السياسي حضور التنظيم وتغلغله بين صفوف الساخطين على نظام الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح. وشهدت فترة الربيع اليمني حرص التنظيم على كسب تعاطف الجمهور الثائر، حين أعلن المسؤل الشرعي لتنظيم القاعدة في جزيرة العرب، عادل بن عبد الله بن ثابت العباب في الثاني والعشرين من أبريل/ نيسان عام 2011 عن تأسيس “أنصار الشريعة” ( باسمة رو: القاعدة في اليمن.. حافة الخطر الدائمة، معهد العربية للدراسات والتدريب، 18 – 7- 2012).
باستثناء تنظيم القاعدة، لعب الإسلاميون، على مختلف مشاربهم، دورًا مهماً في الانتفاضة اليمنية، وفي إسقاط علي عبد الله صالح. شاركوا في الحشود الجماهيرية وتصدوا لأجهزة السلطة، على رغم اتهامات توجه إلى التجمع اليمني بأنه كان يريد الحفاظ على النظام وإسقاط الرئيس فقط، وذلك نظرًا لتورط التجمع بفضائح فساد. لكن دور التجمع بدا واضحاً في المرحلة التي أعقبت إسقاط الرئيس، والعودة إلى المؤسسات الدستورية، حيث بدا التجمع ومعه الإخوان المسلمين عملياً أصحاب شهوة سلطة وإقصاء لسائر التيارات السياسية على غرار إخوانهم في مصر وتونس وليبيا. وبالنظر إلى اختلاط الصراع السياسي بالصراع القبلي، لم يكن للإخوان أن يحققوا ما سبق لغيرهم. أما الحوثيون، فاندفعوا إلى صراع مسلح مع التجمع ومع السلطة الجديدة، وأكسبوا صراعهم بعدًا طائفياً ومذهبياً بشكل صريح. يشير الكاتب اليمني عبد الوهاب قطران إلى طبيعة الصراع المندلع بالقول :”فالإخوان المسلمون وحزب الإصلاح، يمارسون سياسة الاقصاء والتفرد في الوزارات التي سيطروا عليها، وهي العدل والداخلية والتربية والتعليم والمالية والتخطيط والتعاون الدولي. وهم لديهم نهم وتعطش للسلطة والاستيلاء عليها، وقد وظفوا في تلك الوزارات الآلاف خارج معايير القانون. يمارسون الفساد المالي بشكل واضح ومكشوف” ( عبد الوهاب قطران : أسباب التفجر الوطني، من كتاب : غياب الرؤية الحضارية في الحراك الثوري العربي، تحرير وفاء صندي، منتدى المعارف، بيروت، 2014، ص 253- 252 ) ويضيف كاتب يمني آخر :”مشكلتنا مع “الإخوان” سواء في اليمن أو في مصر أو تونس وغيرها من بلدان الربيع العربي، أن الجماعة لا تقبل ولا تثق بمؤسسات الدولة القائمة، ولذلك تعمل على استبدالها بمؤسسات “الجماعة”وبكادر الجماعة، وبما يحول الدولة الى أداة من أدوات الجماعة” (محمد المقالح: الاستحواذ على ثمار السلطة، غياب الرؤية الحضارية، المصدر نفسه، ص 264).
5 ــ سوريا
يمثل الإخوان المسلمون التنظيم الأبرز داخل الإسلام السياسي في سوريا، حيث يعود بجذوره إلى الأربعينات من القرن الماضي. مارس عمله في مراحل متعددة بشكل علني، ثم عاد إلى العمل السري خصوصاً منذ الثمانينات بعد أن دخل في مواجهة مسلحة مع النظام البعثي، الذي استشرس في قتاله معهم، ولم يتورع عن تنفيذ مجازر جماعية وتدمير أحياء سكنية بكاملها على رؤوس ساكنيها، كان أبرزها مجازر حماة التي وصل تقدير قتلاها إلى حوالي خمسين ألف نسمة. ووضعت قوانين صارمة ضدهم وصلت إلى الحكم بالإعدام على من ينتسب إلى هذا التنظيم.
عشية الانتفاضة السورية في آذار/ مارس 2011، أعلن الإخوان المسلمون أنهم شريك أساسي في الحراك المدني الذي انطلق في شوارع المدن والبلدات السورية. وقد كان لهم دور فاعل في هذا الحراك، بحيث بدا أن الانتفاضة السورية قد أعادت لهم الروح، وأدخلتهم في الحياة السياسية مجددًا. وصدرت مواقف سياسية تتصل بمستقبل سوريا بعد إسقاط نظام البعث، كان من بينها مواقف للإخوان المسلمين تقول صراحة بضرروة إقامة دولة مدنية في سوريا، والاعتراف بالتعددية السياسية وبمصالح المجموعات التي يتكون منها المجتمع السوري. نظر كثيرون إلى هذه التصريحات بعين الريبة، ورأوا فيها نوعاً من الاطمئنان الشكلي المطلوب قبل وصولهم إلى السلطة. خلال مسار الانتفاضة وما تبعها من قيام تنظيمات لتوحيدها وتأطيرها، لم يوفر الإخوان أي سعي للهيمنة على “المجلس الوطني” ولاحقاً على “الائتلاف الوطني”، وبدا النفس الإقصائي خصوصاً للمجموعات العلمانية واضحاً، مما أوجد نزاعاً داخل مجموعات المعارضة لم يتوقف حتى الآن. زاد من تصلب الإخوان اعتمادهم على الموقف القطري الداعم بشكل مطلق لهم، والمؤثر من خلال الدعم المالي والعسكري الذي تقدمه قطر للانتفاضة السورية، وكذلك على الدعم التركي المحتضن لهم بحكم انتساب الحزب الحاكم إلى هذا الإسلام السياسي.
مع دخول الانتفاضة في مرحلتها المسلحة، تغير المشهد السوري بشكل كبير لجهة طبيعة الصراع والقوى المنخرطة فيه. تقاطعت مصالح سورية داخلية يمثلها النظام مع توجهات ومصالح غربية أميركية لتحويل سوريا ساحة إرهاب باسم الإسلام السياسي. خلافا للسياسة الأميركية في مصر، والتي كان الرهان فيها على حصان الإخوان المسلمين واستلامهم السلطة، بعد مفاوضات طويلة جرت بين “الإخوان” والإدارة الاميركية وحصل فيها تفاهمات حول مجمل القضايا خصوصاً المتعلقة منها بالاتفاقات مع اسرائيل، فإن الإدارة الأميركية كان حصانها الأول والوحيد في سوريا رئيسها بشار الأسد ونظامه. فهذا النظام، مع الأب والإبن، أتى برعاية اميركية عام 1970، وكان أحد أعمدة الخطة الأميركية في المنطقة، مدافعاً عن مصالحها وعن مصالح حلفائها، تولى خلال حكمه ضرب المقاومة الفلسطينية وسائر حركات المعارضة الوطنية في المشرق، وأرسل جيشه تحت العلم الأميركي لمحاربة العراق في التسعينات، والأهم من كل ذلك أن الجيش السوري شكل حرس حدود لإسرائيل ومنع أي عمليات ضدها منذ العام1973، واستخدم الأراضي اللبنانية وحركة المقاومة لإدارة حروب بديلة… وعندما اندلعت الانتفاضة السورية، أدركت الإدارة الأميركية أن الإطاحة بالأسد ستؤدي إلى قيام سوريا جديدة، ليس مضموناً أن تسلك السياسة إياها التي سلكها الأسد، خصوصاً في العلاقة مع اسرائيل. بل قد يكون النظام الجديد داعماً لقوى وطنية معادية لأميركا واسرائيل، لذلك كان القرار الأميركي تدمير سوريا، جيشاً وشعباً ومجتمعاً، وجعلها أشلاء بما يمنع قيام دولة سورية قوية تشكل تهديداً لأميركا ومصالحها.
وكان المدخل إلى ذلك إدخالها في حرب أهلية واستحضار قوى الإرهاب لتتقاتل على أرضها.
تقاطع مشروع تحويل الانتفاضة السورية إلى حرب أهلية بين النظام السوري والقرار الأميركي. أفرج النظام عن مجموعات تنتمي إلى القاعدة كانت تقبع في سجونه، وأرسل العراق مجموعات أخرى، ورفدت إيران هذه القوى بمجموعات من عندها، وأدخلت حزب الله اللبناني إلى الأراضي السورية للمحاربة إلى جانب النظام، تحت حجة حماية الأماكن المقدسة الشيعية في البداية، ثم توسع الانتشار إلى سائر المناطق السورية دفاعا عن النظام البعثي. هكذا تحول تنظيم القاعدة إلى فسيفساء من قوى محلية وعناصر من المخابرات السورية والعراقية والإيرانية، أضيف اليها مقاتلون من دول عربية أخرى ومن أفغانستان وباكستان والشيشان وبعض الدول الأوروبية، بما جعل سوريا ملجأً ومقرًا لكل من يبغي جهادًا في سبيل الله ويقيم دولة الخلافة وفرض حكم الشرع فيها.
كان تحويل سوريا إلى مجمّع للمقاتلين من شتى أنحاء العالم مصلحة صافية للنظام السوري. قدم بشار الأسد نفسه محارباً الإرهاب العالمي تطبيقاً لنظريته أن سوريا تتعرض لمؤامرة عالمية بقيادة الارهاب بسبب دورها الممانع. كما كان للولايات المتحدة الأميركية ومعها الغرب مصلحة في تجميع عناصر الإرهاب وحشرها في سوريا وجعلها تتقاتل وتفني بعضها بعضاً. هنا يكمن بعض سر عدم استعداد الغرب لتسليح المعارضة بحيث تتمكن من قلب النظام، بل الإبقاء على حدود من التسليح تسمح لها بالقتال من دون الحسم. كما تبرز السياسة الغربية في تأييد بقاء الأسد، خلافاً للديماغوجيا الكلامية عن انتهاء دوره، فبقاء الأسد هو ضمانتها في بقاء الحرب الأهلية مشتعلة إلى أمد غير منظور.
لم يخطيء الغرب ولا النظام السوري في استخدام تنظيمات الإسلام السياسي في الحرب الدائرة في سوريا. انقسمت هذه التنظيمات عل نفسها، وكان الانقسام الأكبر بين “القاعدة” وجبهة النصرة التي كانت جزءًا من “القاعدة”، حيث تحولت “القاعدة” إلى “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، وحددت معاركها مع جبهة النصرة و”الجيش الحر”، فبدت من أفضل الأسلحة في يد النظام ضد المعارضة السورية المدنية والعسكرية. واندلع القتال بين المجموعات الدينية المسلحة التي تذررت بشكل غير مسبوق، بحيث وصل عددها إلى حوالي المئة تنظيم، كل واحد منها يحتكر السماء ويرى أنه يمثل الإسلام الحق، ويكفر سائر المجموعات، ويهدر دمها. سقط الآلاف من القتلى بين المجموعات الإسلامية المتحاربة بين بعضها البعض، كما سقط الآلاف في القتال مع قوى المعارضة، وفي كلتي الحالتين، كان النظام السوري ومعه الغرب الأميركي والأوربي يعيش ابتهاجا بالذي يجري، فهذه التنظيمات المتحاربة باسم الدين توفر على المعسكرين السوري والغربي عبء المواجهة والتصدي لهذا الإرهاب.
أما العجائب والغرائب فهي التي أبدعت التنظيمات الإسلامية في إظهارها عندما توفر لها السيطرة على مناطق جغرافية، ثم فرض نظامها وقوانينها في تلك المناطق. بدت المناطق السورية الخاضعة لتنظيم “داعش” وكأنها عادت إلى عصور ما قبل التاريخ، لجهة نوع التشريعات التي فرضت على الناس في وصفها عودة إلى السلف الصالح ونشر الدين الإسلامي كما جاء في أيامه الأولى، وكما جرى تطبيقه زمن دولة الخلافة. ظهر هذا الإسلام مصدر قتل وسحل ورجم لمن يخالف تعليمات “داعش”، يتم ذبح البشر لأبسط الأمور ويقرن هذا الذبح بتكبير الله الكبر، لحاجة القتلة الى مباركة إلهية. وفرضت القوانين الصارمة على النساء، ختاناً وتحجيباً ومنعاً من الخروج أو الذهاب إلى المدارس، ووصل الأمر إلى دعوة لتحجيب أثداء البقر، لكونها تثير الغرائز الجنسية. يضاف الى ذلك الموقف من الأقليات المسيحية والعودة بها إلى اشتراط اعتناق الإسلام أو دفع الجزية أو المغادرة. باختصار، كل ما له بالعصر وبالتقدم والحضارة ممنوع منعاً باتاً تحت طائل الإعدام للمخالف، وكل ذلك يتم باسم الإسلام. لا تحمل سائر التنظيمات الإسلامية، المنتشرة كالفطر، أفكارًا أرقى مما تحمله “داعش”، فالكل في هذا المجال، يندرج في خانة واحدة، سواء أكان هذا التنظيم من مدعي مقاتلة النظام السوري، أو من تلك التي تصنف نفسها داعمة له. لا شك أن واقع الإسلام السياسي كما رست عليه الحال في سوريا يشكل مناسبة مهمة جدًا للنقاش في الإسلام نفسه، أي ما يتصل حقاً بالإسلام وجوهره، وما لا علاقة له بالإسلام بل ينتسب إلى تقاليد بالية رماها التاريخ في مزابله.
6 ــ العراق
يتميز العراق تاريخياً بولادة الإسلام السياسي في ربوعه من خلال الصراع على السلطة الذي نشب بين أنصار معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب. استخدم القرآن لأول مرة في هذا الصراع السياسي من خلال رفع المصحف والتحكيم الذي تبعه وما نتج عنه من سيطرة الأمويين، وبالتالي انقسام المسلمين إلى فرق وشيع كان أبرزها المذهب السني والمذهب الشيعي ومذهب الخوارج. وتبلورت الفرق بأعداد كبيرة المختلط فيها الدين بالسياسة، وكانت جميعها تلجأ إلى النص القرآني والأحاديث النبوية وأقوال الأئمة، فتخترع ما شاء لها من أقاويل وتنسبها إلى النبي توظيفاً لموقعها وتبريرًا لسياساتها وإسباغ المشروعية الدينية على صراعها مع الفرق الأخرى. سيصطبغ التاريخ الإسلامي على امتداد قرون بحروب اتخذ بعضها طابعاً طائفياً ومذهبياً، استعملت فيها كل بشاعات العنف والذبح والتقتيل، بما يشابه ما تلجأ إليه اليوم تنظيمات الإسلام السياسي في سوريا والعراق من أعمال قتل، وكأنها تستلهم ذلك التاريخ غير المجيد الذي مر به العرب والمسلمون في العالمين العربي والإسلامي. يكاد الإسلام السياسي ينحصر اليوم بين الأحزاب ذات الطابع السني والاحزاب ذات الطابع الشيعي، وهما متفقان في التوجه السياسي والأهداف، وإن كان صراعهما يتمثل بمن يمسك بالسلطة. يشير الكاتب العراقي رشيد الخيون إلى هذا الإسلام بالقول :”ليس هناك من اختلاف في توجهات الإسلام السياسي، من ناحية أسلمة المجتمع والدولة وبناء دولة إسلامية، وإن كان هناك اختلاف فهو اختلاف طائفي، مع أن الطرفين تعاملا مع الظرف السياسي بنفعية، أي أنهما لغرض سياسي تراهما يتجاوزان المذهبية، لكنه تجاوز طاريء قياساً عل العمل السياسي وتوجهاتهما البعيدة” (رشيد الخيون: تاريخ الإسلاميين وتجربة حكمهم في العراق، من كتاب “الإسلاميون ونظام الحكم الديمقراطي، ص644).
استمر التاريخ الصراعي المذهبي في العراق يحفر عميقاً في الوجدان الإسلامي ويراكم طبقات من الكراهية والحقد، تتمظهر أحياناً خصوصاً في المناسبات ذات الطابع المأساوي، أو تتفاعل في الخفاء. وعندما تكونت الدولة العراقية في الربع الأول من القرن العشرين، غلب على السلطة التكوين السني، على رغم الأكثرية العددية للتكوين الشيعي. في منطق الطوائف، يسود الانفراد بالسلطة وإقصاء المجموعات الأخرى وممارسة الاضطهاد ضدها من أجل إخضاعها ومنع تمردها. ترسخت هذه السياسة مع صعود الحركة القومية العربية خصوصاً مع استيلاء حزب البعث على السلطة. لقد كان العراق موحدا في عهد البعث بقوة الديكتاتورية وليس بالتوافق الاجتماعي بين مجموعاته السياسية والإثنية. مارس الحكم البعثي تمييزًا طائفياً وقهرًا للمجموعات الطائفية والإثنية التي يتشكل منها العراق. وعلى رغم الادعاءات القومية للحكم البعثي والعلمانية المبتذلة التي اعتمدها، فإن سياسة إقصائية واستئصالية جرى تطبيقها من أقلية حكمت البلاد بالحديد والنار. حطم الاحتلال الاميركي التركيبة السياسية – الطائفية القائمة، لكنه، وخلافا لادعاءات إقامة حكم ديمقراطي في العراق، نصّب منظومة مذهبية مكانها، فبات البلد في قبضة المذهبية الشيعية.
شكلت السنوات التي حكم فيها ممثلو المذهب الشيعي، زمن الإحتلال الأميركي، مختبرًا لممارسة المذهبية الطائفية الشيعية للسلطة، فلم تكن أقل إقصائية واستئصالية من المذهبية السنية السابقة، حيث اعتمدت وجهة “تشييع البلد”، وتصرفت بمنطق الثأر، ليس عن سنوات حكم البعث، بل عن الصراع القديم المستمر منذ حرب يزيد والحسين ومقتل الحسين في معركة كربلاء، هذا الصراع الذي كان يستخدمه قادة العراق في تأجيج الصراع الداخلي، على غرار تصريحات رئيس الوزراء نوري المالكي بأن المعركة ما تزال مفتوحة بين أنصار الحسين وأنصار يزيد. إذا كان البعث والتركيبة السنية السابقة مارست التمييز الطائفي تحت غطاء القومية والعروبة، فإن ممارسة الحكام الجدد كانت طائفية مذهبية عارية، في جميع الميادين العسكرية والسياسية والإدارية، مستلهمة النموذج الإيراني في الحكم.
كان العراق يحفر عميقا، خلال السنوات التي تلت الاحتلال الاميركي لأراضيه، عبر تراكم الأحقاد والكراهية بين مجموعاته، وكان انفلات العنف والعنف المضاد قانوناً يحكم قواه المتعددة هنا وهناك. وكان الفشل المتمادي لسياسة “حزب الدعوة” الشيعي يؤسس ويراكم عناصر التمرد الذي كان واضحاً لكل مراقب أن ناره قادمة. هكذا رسم الإهتراء الداخلي وانقسام المجتمع والإمعان في القمع والعجز عن اقامة توافق سياسي حول السلطة، معالم المستقبل، بما جعل التقسيم الجغرافي نتيجة منطقية وتكريسا للانقسام الداخلي وتمزيق النسيج الاجتماعي للعراق.
إذا كانت التطورات العراقية قد وضعت تنظيماً إسلاميا متطرفاً في واجهة المعارك التي تخوضها قوى فعلية عسكرية وسياسية بعضها ينتمي إلى النظام البعثي المنهار وبعضها الآخر من العشائر السنية التي اضطهدها النظام الحالي، إلا أن هذه الواجهة لا يجب أن تغفل حقيقة وحجم المشروع الجديد لقوى المعارضة، التي بات من الواضح أنها تهدف إلى إسقاط الهيمنة الطائفية القائمة في حد أدنى، او إلى تقسيم العراق بين مجموعاته الطائفية وتكريس جغرافيا جديدة في البلاد. لعل مجريات الأحداث من قبيل انهيار الجيش العراقي أو تسليم مواقعه ما يشي بحجم التطورات الكبيرة المنتظرة، والتي لا يفيد فيها تصريحات رأس السلطة عن مؤامرة وخيانة وغيرها من الأوصاف. هذا على الصعيد الداخلي.
أما على الصعيد الخارجي، فإن الموقف الإيراني هو الأشد تأثرًا بما يحصل. تصرفت إيران منذ الاحتلال الأميركي على أن العراق امتداد لإيران وقد بات عملياً تحت وصايتها، وهي حقيقة لم تكن غائبة، تمثلت في بناء السلطة التي كان لإيران اليد الطولى فيها. لا تخفي إيران استعدادها للتدخل العسكري لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه، وهو مركب سيدخلها في رمال الحرب الأهلية بكلفة كبيرة لا تقاس بما تدفعه في سوريا. أما الولايات المتحدة الأميركية، صاحبة فضل أساسي في تفجير بنية العراق، فلا يبدو انها فوجئت بما حصل، لكنها أعلنت صراحة عن عدم استعدادها للتدخل لإنقاذ النظام ، من دون ان تنفي إمكان التنسيق مع ايران في شأن المواقف الممكن اللجوء إليها عسكرياً وسياسياً.
تقف القوى العراقية اليوم، كل على سلاحه. يكلل الشحن الطائفي والمذهبي شعارات المرحلة. يعلن السيد علي السيستاني الدعوة إلى الجهاد المقدس ضد “غزوة السنة”، وهو الذي أفتى عام 2003 بعدم التصدي للاحتلال الأميركي، ويمتطي عمار الحكيم لباس الحرب ويدعو إلى المنازلة، وهو الذي أتى على الدبابات الأميركية خلال الاحتلال. في المقابل، يعلن مفتي العراق السني ان ما يحصل هو انتفاضة الطائفة السنية على التسلط الشيعي المتمادي منذ عشر سنوات. تحتشد القوى المتطوعة من هنا وهناك لحرب عنوانها ضرب القوى الإرهابية وفق خطاب الحكم، واستعادة السلطة ووضع حد للاضطهاد من قبل التحالف السني.
بعد سيطرة تحالف عشائر السنة وحزب البعث وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) على أجزاء واسعة من العراق، خصوصاً منها المناطق ذات الغلبة العددية السنية، أعلنت “داعش” إقامة الخلافة الإسلامية، وهو الشعار الذي تهدف جميع التنظيمات الإسلامية إلى تحقيقه. ومدت هذه الخلافة أرضها لتطال جميع الدول العربية، على أن تتركز مرحلياً في بلاد العراق والشام. هكذا زفت “داعش” للمسلمين استعادة مجدهم التاريخي، وحقق الإسلام السياسي أهم منجزاته. منذ اليوم الأول لإعلان الخلافة، ارتفعت أصوات من تنظيمات إسلامية رافضة الخلافة والخليفة معا، واعتبار ما جرى خارج الشرعية والأصول الإسلامية، وترتب على ذلك ازدياد حدة العنف بين هذه المجموعات على غرار ما جرى في التاريخ القديم، وهو قتال من المستبعد ان يتوقف لأنّ كل طرف يستحضر الإله لدعمه وإعطائه المشروعية. لكنّ العجائب والغرائب تجلت في القوانين والتشريعات التي فرضتها “داعش” على السكان الخاضعين لسيطرتها، وهي متشابهة مع ما جرى فرضه في المناطق السورية من وجوب عودة الناس إلى العيش في ظل العصر الحجري، والتزام تقاليد وتعاليم السلف الصالح من قتل وذبح وختان وتحجيب للنساء ومعهن الحيوانات، وإعادة المرأة إلى البيت، وإلغاء كل أثر للفرح ومناسباته..
ومن أجل اكتمال تطبيق الشريعة كما تنص على ذلك الخلافة، استعادت “داعش” آيات من سورة التوبة في القرآن، وفيها ما يدعو إلى قتل الكفار، أي غير المسلمين من نصارى ويهود وغيرهم، وهي آيات نزلت في ظروف لا علاقة لها بالزمن الراهن وتنتسب الى مرحلة الصراع من أجل فرض الإسلام. ترجمت “داعش” سورة التوبة بالهجوم على المسيحيين في مناطق سيطرتها وتخييرهم بين اعتناق الإسلام أو فرض الجزية أو الموت، بل واعتمدت القتل المسبق لرجال دين وآخرين، لإرهاب سائر المسيحيين وفرض تهجيرهم بشكل عملي. لا أحد يمكنه التنبوء بالقوانين الجديدة التي ستعتمدها تيارات الإسلام السياسي عندما تتمكن من السلطة، فقد نشهد ما هو أدهى وابشع مما نراه اليوم، وكله باسم تطبيق الشريعة وتعاليم الدين الحنيف.