كوزيت كرم الأندري
لطالما سألته مستنكرة: “لمَ لا يمكن وهب الأدمغة كما توهب الأعضاء، بعد رحيلنا عن هذه الدنيا؟ لو كان ذلك ممكناً، لتقدمت بطلبٍ للحصول على دماغك، بعد عمرٍ طويل!” (ونضحك). أقولها مسبقاً: لن أكون موضوعية في ما يأتي، وهو خطأ مهني فادح أعترف به لكنني راضية عنه، طالما يتعلق الأمر برجل اسمه إيلي صليبي. محظوظة أنا لأنني عرفته عن قرب، وسيئة الحظ لأنني عرفته عن قرب! فمن عايش هذه الخلطة الساحرة لا يمكن إلا أن يتحسر عليه.
تحدثنا في مواضيع كثيرة بقيت معلّقة، منها معشوقتك فيروز وأغنيتاك المفضّلتان، “بعدَنا” و”طريق النحل”، وأغنية محمد عبده “الأماكن”. سأصمت (مُرغمة)، وأعطي الكلمة لرجلَين أغار من كليهما إذ أُتيح لهما أن يعملا معك طوال سنوات: الإعلامي الكبير عادل مالك، والمدير العام لإذاعة “صوت لبنان” أسعد مارون.
عادل مالك عن إيلي صليبي
اجتاز مسافة طويلة ومتعبة من صيدا إلى بيروت، على رغم وضعه الصحي الدقيق، ليتحدث عن صديق عمره إيلي صليبي. وصل إلى المقهى لابسا همّ السنين والمرض بأناقة لافتة، متأبطاً ملفات وصوراً عن حقبة البدايات. تماما كإيلي صليبي، هو في منتهى التواضع والدماثة والوداعة. هما متخرجان في المدرسة المهنية والخُلُقية عينها!
يقول عنه: “إيلي صليبي لم يُنصَف كما يجب. لبنان هيك. إنها مهنة عاقة، والعقوق هذا ينعكس على جيل تلك المرحلة. نحن، وبكل تواضع، ننتمي إلى جيل الرواد الذين أرسوا قواعد مهنة الإعلام في لبنان، ولم يكن أمامنا من نتمثل نموذجه أو نتأثر به. إيلي، أنا، والزملاء جان خوري، كميل منسى، وعرفات حجازي، أرسينا قواعد “القصة كلها سوا” في الستينات. جمعنا ما بين الصداقة والمهنة، فكنا نتنافس في ما بيننا بكل مودة لنقدم عملا جيدا، ولا سيما أن تلفزيون لبنان كان التلفزيون الأول في المنطقة”.
الصورة التي لا تزال مطبوعة في ذهنه عن إيلي صليبي هي كون الأخير طفلا كبيرا، وديعا، فهيماً ويتميز بسرعة القبول من الناس. “من يسمعه يتقبله بكل سهولة، إنه ورقة مكشوفة. هناك مجموعة عوامل تراكمية ألّفت كتلة تدعى إيلي صليبي أوّلها الصوت، وهو مهم جدا في مهنتنا. إيلي كان ذلك الصوت الواثق من نفسه والداعي للصدقية. حضوره مريح، لغته سلسة ووجهه محبب. إيلي كتلة لا يمكن تجزئتها بسبق إعلامي أو مقابلة نافرة أو حدث معين. إذا جزأتيه بتحجّميه!”.
عما قاله صليبي، في الآونة الأخيرة، بأنه لم يعد يشاهد التلفزيون “لأن بيوجعو بَطنو بس يحضر” يعلّق مالك: “إنها معاناة جيلنا الذي قدّم الكثير من العطاءات والنتاجات وأرسى القواعد الأساسية للإعلام في لبنان، وإذ به يرى هذه القواعد تُنسف من أساسها. هو، وهكذا هي الحال بالنسبة إليّ أنا أيضا، أمضى عمره في هذه المهنة، لذا كان يعزّ عليه أن يرى كيف أنه يتناوب على اغتصاب الإعلام العديد من الطارئين عليه (طلب مني ألا أنشر وصفه بحرفيته إن بدا لي غير لائق، وهل الوضع الإعلامي غير اللائق يوصَف بكلمات لائقة؟!). هذه معاناة ليست بسهلة على الإطلاق. إيلي دخل إلى صومعته واتجه إلى الكتابة الأدبية. أنا فضلت أن أستمر على رغم الوجع، ولا يزال هناك ما أستمتع به كل يوم. إنها مسألة قرار”.
أسأله: ألم تهرب، أنت أيضاً، إلى صومعة أخرى خارج البلاد حيث مكثت في لندن ثلاثين سنة؟: “لم يأتِ قراري هذا من باب الهرب أو التخلي عن الوطن ولا عن المهنة، بل شعرت، في بداية الحرب وما رافقها من أجواء مشحونة، أننا على أبواب حريق كبير جداً، ففضلت، بما أنني عاجز عن إخماد هذا الحريق، ألا أزكّيه! هناك إعلام مدمّر وإعلام معمّر، لم أرد أن أكون جزءا من الإعلام المدمر أثناء الحوادث، يوم تضاءلت أهمية المهنة وبات من الصعب الاستمرار بطريقة رتيبة وببغائية. أوعى تفكّري وجودي بلندن كان متعة. لكن كان لا بد من الابتعاد حين لم يبق لبنان لبنان، ولم تبق المهنة مهنة”.
عادل مالك كان قال لي متحسرا، قبل بدء تسجيل الحوار، إنه اتصل بصليبي منذ أيام، وإنهما كانا سيلتقيان خلال الأسبوع الذي تلا رحيل الأخير: “لم ألتق به منذ فترة طويلة جدا، كم كنت أودّ أن أسترجع معه، ولو بالذكريات، تلك السنوات التي أمضيناها معاً. كنت أود أن أتحدث وإياه في أمور شخصية لا علاقة لها بالمهنة. قضّيت معو عمر لإيلي، شقفة مني راحت معو”.
يتوقّف مالك أيضاً عند جحود المهنة والتنكر بسرعة لميزات وخصائص رجال تركوا بصمة، منتقدا حفلات التكريم ووضع النياشين على النعوش. “إنها نمطية لبنانية معيبة للحقيقة. في الخارج، التكريم يسبق الرحيل”.
… وأسعد مارون
يقول أسعد مارون الذي عايش صليبي طوال عقدين: كان صليبي يفضل الأوفياء على الكفيتين. فالوفي، كما كان يقول، يمكن أن يتعلم ويتدرب فيصبح “شاطراً”، لكن من ليس وفياً لا يستطيع أن يعلمه هو الوفاء. الإعلام، هو له مدرسة أخلاق وقِيم قبل كل شيء. كان يردد “ما فيّي علّم الناس يصير عندن صدق وأخلاق ووفا، بس فيّي علمن يصيروا يعرفوا بالمهنة”.
“كان صليبي رجل التفاصيل بامتياز”، يتابع مارون. “وكان يرى أنّ عمل الإعلام هو مجموعة تفاصيل، وأنه بمقدار ما ننجح في هذه التفاصيل الصغيرة ونتقنها نحسن قيادة سفينة الأخبار أو سفينة البرامج. كذلك كان حريصا على أن يكتب الخبر بخط يده في الكثير من الأحيان، كما كان حريصا على ألا يكتب خبرا قبل مشاهدة الصور. نحن، كان يردد، نكتب للصورة لذا يجب ألاّ نصف المشهد، الناس مش أغبيا، مش لازم أوصفلن لعم بشوفوه، يجب أن أكتب ما وراء هذه الصورة. أما في الإذاعة، فعلمني، كما علّم الكثيرين، أن أكتب للذين يقرأون بآذانهم”.
يضيف مارون بحماسة التلميذ الذي لم يتنكّر لأستاذه يوماً: “علّمني ألا أستعير قلما من أحد وألاّ أعير قلمي لأحد، أي ألاّ أتبنى مواقف لست مؤمنا بها وأكتبها مقابل بدل مالي، وألاّ أسوّق لما لست مقتنعاً به. كان رجلاً مبدئياً وقد دفع في الكثير من الأماكن، ثمن مبادئه هذه. لا يساوم على حساب المهنة، وجميعنا يعلم أن المساومات والإغراءات في حقل الإعلام كثيرة في بلدنا، وهو، بلا شك، تعرّض للعديد منها كونه كان مديرا للأخبار والبرامج السياسية في الـ”أل بي سي”، وهي كانت أهم مؤسسة إعلامية في لبنان والشرق الأوسط. صليبي رفض الخضوع لأي ضغط من هذا النوع”.
مارون، الذي يعتبر نفسه أخاً لصليبي، يشدّد على أن الأخير لم يملك لعبة التلفزيون فحسب، بل كان هو التلفزيون. “هو من وضع نشرة الأخبار النموذجية في البداية، وما نشاهده اليوم من نشرات إخبارية على الشاشات هو نتيجة ما أسس له هذا الرجل”. أما عن طقوس عمله فيذكر مارون كيف أن صليبي كان حريصا على ألا ينعزل ويكتب، بل كان يؤمن بالعمل ضمن فريق. فقبل اختراع غرفة الأخبار المفتوحة، بشكلها الحالي، “كان يقعد هوّي عراس الطاولة وكلّن حواليه، والكل يشوف الصور ويفكر ويكتب”.
عن البرامج التلفزيونية، ولصليبي باع طويل فيها ولا سيما في قناة “أوربت”، حيث عمل معه مارون في الإعداد والتقديم، يقول الأخير: “كان صليبي أرثوذكسيا وملتزما مسيحيا، لكنه من القلائل الذين كتبوا وقدموا برامج عن الإسلام. أحسن مخاطبتهم، كتب لهم وعنهم، أعد وقدم مجموعة من البرامج التي تتحدث عن التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية خلال شهر رمضان، منها “سيوف وحروف” الذي كان يضيء على أبرز المعارك الفاصلة في التاريخ الإسلامي، ومنها عن الخلفاء، والأندلس. أذكر أن أحد مالكي هذه القناة أتى ذات يوم إلى بيروت وقال: أودّ أن أتعرف إلى هذا المسيحي الذي يحاضر لنا في شهر رمضان المبارك! كان مهووساً بالتفاصيل، كما سبق وذكرت، بحيث كنا نسجل أحياناً حلقات مدتها ساعة ويحدث أن يمر فيها خطأ بسيط، يرفض المونتاج فنعود ونسجل الحوار بكامله من جديد. كان يرى أنه إذا عملنا مونتاج بدو يبيّن في لِعب بالحلقة. كنا نسجّل حتى ساعات الفجر أحياناً. صليبي كان، بلا شك، مدمناً العمل التلفزيوني، وكان يعمل سبعة أيام على سبعة من دون استراحة”.
يعتزّ أسعد مارون بكونه ينتمي إلى مدرسة إيلي صليبي، فيقول: “تخرجت في الجامعة أمّيا، لكن مع أستاذ إيلي تعلمت مهنة الإعلام، وأنا أدرّس في الجامعات اليوم ما تعلمته منه”.
وبعد، قال لي رداً عن سؤال، قبل أيام من رحيله: “افتكرت الحياة ماشية عإجريا، تاري كارجة عدواليب”. لم يكن إحدانا، ولا أحدنا، يعلم أن الموت كارج نحوه… على دواليب. هنيئاً لك أيها الموت!
******
(*) جريدة النهار 20- 7- 2016