ألعـــقــــلُ لــعــنــةٌ… إذا لم “يُرَوْحَنْ”!

raymond-chebli

ريمون شبلي

(أديب وشاعر-لبنان) 

يا لَلوجودِ

إنسانًا-تركيبةً عجيبة (شكلًا ومضمونًا)، وأرضًا – كرةً عجيبةً غريبة (شكلًا ونظامًا ومخلوقاتٍ) معلَّقةً في الفضاء، وكونًا – مسافاتٍ لا متناهيةً ينقّطها نجوم وكواكبُ ومجرّاتٌ (لا تُعَدّ ولا تُحصى)!!!

يا له وجودًا لم يكُنْ لو لم تكن قوّةٌ إلهيّةٌ… فهل يُنتج العدمُ وجودًا لا حدودَ له (وحركةً وحياة)؟!.

وماذا عن العقل

هذه القوّةِ المدركة المحلِّلة المُستنتِجة التي لا تعترفُ إلا بما يقع تحتَ مسافة الحواسّ وضمنَ حدود الواقع؟

هي نعمةٌ ربّانيّة يُفترضُ بصاحبها، فردًا وجماعةً، أن يستفيدَ منها للتطوّر والتّطوير، للبناء لا للتدمير… هذه النّعمة يحوّلها البعضُ إلى لعنة، حين تتأجّج فيهم نارُ الأنانيّة والطّمع والاستئثار والتّسلّط… فيا لَسقوط العقل عندئذ في حفرة الغريزة المظلمة!

وأمّا ما بعدَ نطاق الحواسّ والقوّة العقليّة، أي الماورائيّات، فلا قدرة للوصول إليها إلّا بالرّوح والإيمان…

✹✹✹

وبعدُ،

بين يديّ كتابٌ جديد أصدره الصّديق الكاتب المفكّر الدكتور في الفلسفة جهاد نعمان، عنوانه “في رحاب مريم” (طبعة أولى 2016)، وهو “قبسات بين الجوهر والوجود” (عنوان فرعيّ تحت العنوان الرّئيس). وعلى الغلاف الخارجيّ الأخير نبذة موجزة جدًّا من سيرة الكاتب خَتمها هذه الإشارةُ المهمّة اللافتة: “في كتاباته ومواقفه عموماً منحى فلسفيّ توفيقيّ بين الجوهر والوجود”.

هذا الكتاب في مئة وعشرين صفحة (من القطع الوسط)، تضمّنت خمسة عناوين [تمهيد – مقدّمات – محوريّة النّاصريّ – مريميّات – على خطى مريم (نسائيّات)]، سبقها إهداءٌ وجَّهه الكاتبُ إلى زوجته “المثاليّة وأمّ حبيبه الأكبر جاد ماري (مريم)… ، وكذلك إلى أمّه الملائكيّة أنجليك باشا…”

jihad naaman

جهاد نعمان

في التّمهيد القصير (ص 8،7) حدّد الكاتب النّتيجةَ – الحقيقةَ التي قاده إليها مسارُه الوجوديّ الرّوحيّ: “السّرّ الإلهيّ حبّ ومجانيّة جسّدتهما مريم على أكمل وجه وأفضل قصد. ذلك أنّ الله اصطفاها أمًّا له. ودور الأمّ في الأسرة المؤمنة لا يحصل خارج الأسرة. مريم ليست فوق الأسرة بل في قلبها.”

وبعد سعيه رأى أنّ مريم “ليست وسيطًا إلهيًّا وإنّما هي أختٌ في الإنسانيّة والأولى في رحاب الإيمان”. و”ليست مريمُ الإلهةَ – الأمَّ كما تنظر إليها الوثنية. إنّها القلب الكلّيّ الإنسانيّة الذي يسكن اللهُ عبره في الإنسان ويكتشف الإنسانُ فيه محبّةَ اللهِ العظمى”.

بعد التّمهيد، “مقدّمات” ضمّت ستّة عشر عنوانًا. (ص 11 – 34 ضمنًا).

في هذه “المقدّمات” ركّز الكاتب على الحّريّة؛ قال: “تستلهم وجوديّتُنا الرّوحيّة حبَّ الحرّيّة أوّلًا. تدعو إلى تحرير الشّخص البشريّ من الجماعات الأحاديّة البعد والمادّيّة الغايات في معظم الأحيان”. أمّا كيف تتمّ مواجهةُ مسألة الحرّيّة التي تُقلق؟، فجوابه هو وجوب “أن تتجاوز الفلسفة، عن وعي، عقلانيَّتَها بالذّات… وأن تستحيل وظيفةً عضويّة في صميم الوجود… ونحن لا ندرك الحرّيّة إلّا في إطار تجربة مَعيشة” و “الفلسفة الحقّة تطابق الوحي الإلهيّ” وإلّا فهي “تهدم الحرّيّة”. وأنهى معارضًا الفيلسوف ديكارت؛ قال: “إنّني أفكّر لأنّني موجود”. بعد الحرّيّة انتقل إلى “العقل والرّوح والغرائز”، فأراه (وأؤيّد رأيه) حائرًا متعجّبًا من العقل المبدع الذي “كلّما استنبط آلة للبناء والتّعمير أَتبعها بآلة أخرى للخراب والتّدمير… يتقدم ويرتقي، ولكنّ روح أصحابه كثيرًا ما تتأخّر وتتدهور.” وبعد مروره بفلاسفة فرنسا (في القرن الثّامن عشر) الذين دعوا إلى “إعمال العقل المفكّر المبدع”، وإلى عدم الإيمان “إلّا بما يؤمن به العقل” (الذي وحده يحرّر من القيود) وحتّى إلى “تقديس العقل”، أظهر إعجابه بكلام الفيلسوف روسّو الذي وجد في العقل “علّة الإنسانيّة الكبرى”، وهي أنّنا “نفكّر كثيرًا ونكرّم العقل كثيرًا. نتقدّم في العقل ربّما وفي كلّ ما هو وليد العقل، إنّما نرجع القهقرى في قيم الحياة الروحيّة ومُثُلها العليا التي هي من إنتاج الرّوح.” وأنهى مُستنتجًا: “العقل البشريّ في يد كبار من هذا العالم وليست غريزة مدفوعة من هنا أو مخدَّرة من هناك لدى صغار هذا العالم. أنّه إذًا جرثومة مشاكلنا وحروبنا. فلنُرَوْحِنْه ونتّقِ الله!”. وأراه قد أصاب في دعوته هذه. وبعد العقل والرّوح والغرائز انتقل الكاتب إلى “مع الحياة حتّى الموت”. فبدا أيضًا متعجّبًا من الذي ” يطلب أسباب المنيّة بوسائل يعشقها ويعجّل بها حلول أجله وذلك من حيث لا يدري”. فمن العاهات والعلل الجسديّة والنّفسيّة الكثيرة اثنتان هما الأكثر ضررًا وخطرًا على الحياة: السّكر والإدمان. فالسّكر وبالٌ على السكّير وعلى امرأته وعائلته. والإدمان هو مصدر الفساد والانحطاط. وما النتيجة؟ سلب الحياة على الصّعيد الشّخصيّ وانتشار الرّذائل والجرائم على الصّعيد الاجتماعيّ. والكاتب محقّ في ما ذهب إليه. والقمار أيضًا يقود إلى الرّذيلة أو الجريمة أو الانتحار (وقد ذكر الكاتب آفة القمار ولكنّه جعلها أقلّ شرًّا من السّكر والإدمان). ثمّ انتقل إلى “المحبّة تتيح كلّ شيء!” و “أيّها الأهل” و “الطّاعة” وقد ضمَّنها فضائل وأخلاقيّات. فهو لفت إلى كثرة “النفوس الماديّة الدّنيئة… وتلك التي تسعى لاهثة وراء المادّة الجوفاء والجاه الأرعن…” ودعا إلى المبادرة “إلى فعل الخير”. وأنهى: “ليس من تربية أعظم من التّربية على الرّحمة والمحبّة… مجتمعُ الله مجتمعُ وُدَعاء…”. ثم توجّه إلى الأهل: طالبهم بأن يكونوا إيجابيّين ومشجّعين وأصدقاء في محادثة أولادهم وفي معاملتهم”. ودعا الأمّ خصوصًا إلى ملازمة طفلها ورعايته والعناية به منذ ولادته، وإلى تنشئته على الفضائل والأخلاقيّات. ثمّ جعل الطّاعة “فضيلة حميدة” لأنّها تقضي على العُجْب والمفاخرة والاستبداد بالرّأي. ومن الطّاعة إلى “الإنسان، ذلك الكائن الدّينيّ”؛ اعتبر الكاتب “أنّ الشّعور الدّينيّ ضروريّ في سبيل سعادة الإنسان.” وله “بطبيعته بُعد دينيّ… يبتغي الارتباط بقوّةٍ مكتنفة بالأسرار تتجاوزه.”. ثمّ انتقل إلى “الإيمان والعقل” و “الإيمان” و”الإيمان أيضاً وأيضاً”، فحثّ النّاسَ على أن يدَعوا “الإيمان المتعقّل أو العقل المتحرّر يقنعهم فيسمو قدرهم”. والإيمان بنظره “سيرورة وتقدّم موصول… ومرشدنا الوحيد كلام يسوع ونور الرّوح القدس.” والإيمان “صدى نفس تائقة إلى اللامتناهي… والمؤمن يتأمّل ما يقرأه ويحيا إيمانه فيغدو قدوة.”. وبعد الإيمان “أين يسكن الله؟”. أجاب الكاتب “أن الله اختار أن يشيد منزله في قلب البشر”. ويمكن رؤيته في كلّ ما هو محبّة وجمال وخير وصلاح وسلام وصلاة وعطاء… وانتقل إلى “الأسرة” التي رآها تشبه “مرآة يعاين الله نفسَه فيها”. وبعد الأسرة، “ابتهال” طلب فيه من الربّ أن يوجّه وطنه إلى القيم السّامية (إلى الكلام – الحقيقة، والمعرفة المتحرّرة، والعولمة النقيّة، والوحدة المدركة العاقلة، والفكر الصّافي المستقيم، والروح المتحرّرة المطمئنّة، والإباء الشّامخ، والتقدّم المتعقّل، والعمل النافع، والأخلاق الرّفيعة، والحرّيّة المسؤولة). وأنهى الكاتب “مقدّمات” برسالة الحبّ. وهي “في العهد الجديد رسالة صداقة حانية… حبُّ مؤاساة كونيّ، مجّانيّ” وبذل الذات “على أساس من الرحمة والاهتمامِ العاقلِ بالآخر…”.

mary

بعد مقدّماتٍ، “محوريّةُ النّاصريّ” ضمّت أحد عشر عنوانًا (ص 37 – 51 ضمنًا).

في “محوريّة النّاصريّ” دعا الكاتب إلى التمحور “حول المسيح في تجسيدنا أخلاقيّاته” التي هو جسّدها.

وما أخلاقيّاته؟ التّجرّد، التواضع، الطّاعة، المحبّة اللامتناهية. وما المسيحيّة؟ “دعوة إذا ما ارتضيناها ألزمتنا القيام بأعمال تتطلّب جديّتنا وقلبنا كلّه، بل وجودنا برمّته.” بعد العنوان الأوّل، انتقل إلى “السّعادة للجميع”، وخلاصته: “يقول يسوع: إن شئتم السّعادة، فأنا السّعادة، وإن رغبتم في السّلام، فأنا السلام، أنا الرّحمة والمحبّة”. ثمّ انتقل إلى “استرحام”. فيه طلب من الإله أن “أشفق على الضّعف البشريّ”، وأن “اغفر جميع الذّنوب الخفيّة” و “كن قوّة الضّعفاء، ونور العميان، وموضوع محبّة النّفوس”. وتحت عنوان “في الرحمة الإلهية” اعتبر أن “الرّحمة في العهدين، حبّ جامع. تُطلب من البشر ولكنّ مصدرها هو الله”. وتحت عنوان “فعل إيمان” أعلن الكاتب “قانون الإيمان” المسيحيّ، مؤكّدًا إيمانه به. وتحت عنواني “يسوع إلى السّجن” و “يسوع في السّجن”، دعا الكاتب النفس المجرمة إلى أن تنظر إلى يسوع الرحوم وتندم فيغفر لها ويحقّق لها السّلام والحياة. وبعد دعوته عبّر عن مرارته من “الذين يدّعون أنّهم أصدقاء المسيح” وهم يشتمونه ويسيئون معاملته في بيت القربان. ويسوع في السجن أيضاً لأنه “رأى على توالي الأجيال بيوت قربان لم يجد فيها ملجأ حبّ بل قلوبًا متجلّدة”. وتحت عنوان “يسوع النّاصريّ، مخلّصنا” جاهر الكاتبُ بأنّ يسوع هو “إلهنا وأبونا، خالقنا ومخلّصنا… ونحن أبناؤه المفتَدون ضحّى بحياته لينجّينا من عبودية الخطيئة وطغيانها”. و”يسوع أتى ليبيّن لنا الحياة في حقيقة غير التي نراها”: في الحياة الأرضيّة نعمل مضطرّين، ونحبّ آنيًّا، ونحبّ عائلتنا كثيرًا لسعادتها، وإذا خدمنا سيّداً فلمدّة قصيرة. فالنّفس التي خلقها الربّ المحبّ ستحظى في النّهاية بموضوع “السعادة غير المحدودة” التي فيها “نحيا أبديًّا” و “هناك نتّحد بأبينا وإلهنا” حيث السّعادة الكاملة!. وتحت عنوان “الإفخارستيّا” حدّد ماهيّتها: “إبداع الحبّ… والزّاد الأخير للعبور من هذه الفانية إلى الأبديّة”، ومفعولها: السلام والراحة والسعادة… وبعدها انتقل إلى “غسْل الأرجل”  مجيباً عن الدّوافع التي جعلت يسوع يغسل أرجل تلاميذه، (تشوّقه إلى أن تكون النفوس طاهرة – رمز إلى سرّ التّوبة – تعليم الاتّضاع – الائتزار بالأمانة – تعليم غسْل خطايا القريب – رمزيّة الماء إلى غيرته المتّقدة من أجل خلاص العالم). وفي العنوان الأخير “الاتّحاد الرّوحي” حدّد ماهيّته: “إنّه اندماج نورين تفصلهما نافذتان ثم يلتقيان مجدّداً ليؤلفا نورًا واحدًا. الارتباط بالله اتّحاد لا تفصم عراه بين روحين، بين النفس وبارئها… المسيح حياتنا”.

roses 1

بعد محوريّة النّاصريّ، “مريميّات” ضمّت ثلاثة وعشرين عنوانًا (ص 56 – 84 ضمنًا) سبقها في (ص 55) إشارة مفادها أنّ “مريم خريطة طريق يسوع إلى البشريّة / وخريطة طريق الإنسان إلى الألوهيّة.”

تحت عنوان “مريم، قصّة طويلة!” ذكر الكاتب أنّ العهد القديم “تنبّأ بمجيئها” وهي متواضعة، متأهّبة، والدة الله. وقد رفضت الكنيسة تحويل مريم إلى إلهة لأنّها “سبيل نادر يقودنا إلى يسوع!”. وإيمان الكنيسة بني تدريجًا حول إثباتاتٍ أربعة: إنّها أمّ الله، عذراء، بريئة من الخطيئة الأصلية، وقد سبقتنا قرب ابنها الإلهيّ.” ومريم هي الأولى التي تقبّلت السّرّ الإلهي… “وعبر رحلة في رحاب مريم يمكن الإنسان أن يدرك أنّ من شأن الله أن يتوهّج فينا أيضًا.” وهي “أمّنا جميعًا… تتشفّع لدى بارئ الأكوان”. وبما أنّها إنسان فالله تاليًا إنسان. وفي “صمت الرّوح”: إختارت مريم أن تعيش بعيداً عن الأنظار، فقضت وقتها في مأمن من التّأثيرات الخارجيّة.” وفي “مريم تقف كلّ جهدها على خدمة الله” ذكر الكاتب أن الأناجيل الأربعة تكتّمت حول مريم، ولكنّها أعطتها مكانة خاصّة (أعجوبة قانا). وتابع أنّ “كلّ إنجيليّ يذكر مريم على طريقته من حيث تجهّزها لتحقيق مشروع الله الذي يتجاوزها.”

وقد “عاشت مريم بلا عيب ومتجهّزة كلّيًّا لكلام الله.” وفي “سرّ الكتمان” إشارة إلى أنّ الأناجيل الأربعة لم تذكر إلّا “الأساس حول مريم”، لأنّ “ما قيل في مريم في الأناجيل مرتبط بالمسيح”. وتحت عنوان “حقيقة” أعلن الكاتب، قال: “عندما أتوجّه شطرَ مريم، في الصّلاة، أتوجّه معها شطر المسيح”. وتحت عنوان “الله ومريم” قال: “بين الله ومريم حوار حبّ دائم”. وقد “باركها الله”، والعلاقة بينهما هي علاقة “أمّ بولد”. وتحت عنوان “تواضع مريم” بيّن سبب عيش مريم في الناصرة المغمورة، بين صغار الناس: لأنّ “القيمة الحقيقيّة لا تنبثق من الوضع البشريّ وإنّما من الله”. وتحت عنوان “ابتهال” طلب من مريم أن تجعل القلوب “تتنقّى في مياه التوبة وتستسلم لمشاعر الثقة، لأن يسوع مستعدّ دائمًا لقبولها”. وتحت عنوان “استعطاف” استعطف مريم طالبًا منها أن تساعده وترحمه وتهديه. وتحت عنوان “أسرار عذراء فاطمة!” تطرق إلى البابا يوحنّا بولس الثّاني الذي “اختار تاريخ 13 أيّار من عام 2000 ليضع حدًّا للنّقاشات التي أحاطت بالجزء الأخير من الرسالة التي سمعها، من فم العذراء، الرّعاةُ الصّغار الثّلاثة، خلال الظّهور الثالث في 13 تمّوز 1917”. وختم الكاتبُ أنّ “جوهر رسالة مريم فاطمة، هو دعوة إلى التّوبة والاهتداء والصّلاة”. وتحت عنوان “أربعة محاور” حدّد هذه المحاور وهي: “مريم هي حقًّا أمّ الله… وهي عذراء على الدّوام… وحبلها هو بلا دنس… صعودها إلى السّماء بنفسها وجسدها”. وتحت عنوان “من تراه..؟” نفى أن يكون من هو أنبل منها وأبهى وأكثر عفّة… فضلاً عن فضائل أخرى. “إنّها عذراء، قلبًا وقالبًا… ومتواضعة القلب”. وتحت عنوان “من حديث عن مريم”، قال: “إجلالنا لمريم لا ينتقص من شأن ابنها الإلهيّ.” وهي “ليست وسيطًا إلهيًّا وإنما هي أخت في البشرية، الأولى في حجّنا الإيمانيّ.” وعلاقتنا بمريم “تكون متمحورة حول المسيح ونحن نحياها في الكنيسة… وأن ننذر أنفسنا لها”. أمّا أبناؤنا اليوم “الضّائعون في عالم فَقَدَ إنسانيّته فهم يشعرون بأنهم يحتاجون إلى أن يتعافوا حقًّا في ضوء عالم آخر، في عالم الله.” أمّا عن مريم والكنيسة الكاثوليكيّة في أيّامنا فقد عاد الكاتبُ إلى المجمع الفاتيكاني الثاني الذي أجاب مركّزًا على “سرّ الله المحبّة: إنّها محبّة يشارك فيها شعبنا بخيار قلبه المجّاني. ونعمة الخيار هذه تتجلّى بأبهى حللها في حالة مريم التي استسلمت كلّيًّا لسلطان الحبّ الإلهي”، وهي، بحسب البابا يوحنّا بولس الثاني، في رسالته حول (أمّ المخلّص) “تشدّد على دور مريم كوساطة أمّ ليست خارج الأسرة، وليست فوق الكنيسة بل في صميمها”. وتحت عنوان “الله في أحشاء مريم!” أعلن الكاتب أنّ “كلّ سرّ إلهي حبسه الله عن النّاس بالكلام، أفصح عنه بفعل الكلمة المتجسّدة ومفاعيل الرّوح القدس”. وتحت عنوان “تواجد”، خرج من وقوف مريم تحت الصّليب بتأمّل مفاده: “إن كان يقاسي (يسوع) الموت في جسده، فإن أمّه تقاسيه في قلبها… كم قال قلباهما من أشياء في نظراتهما الأليمة!”. وتحت عنوان “الأمّ السّاهرة أبدًا” دعا إلى تفويض مصاعبنا إلى مريم، و”إن نحن غفلنا عن اللجوء إليها… فإنّها، بالقرب من ابنها الإلهي، تسابقنا في صلواتنا وابتهالاتنا إلى بارئ الأكوان”. وتحت عنوان “الطّوبى لها!” اغتبط لغبطة مريم التي “تفتح عينيّ الإنسان الجديد إلى الأبد”. وتحت عنوان “جامعة القلوب!” قال: “جمعت مريم في ربوعنا بين المسلمين والمسيحيين”. و “الثابت أنّ سرّ مريم العذراء يوضح مقولات “الإصلاح الديني الثّلاث: النعمة الواحدة والإيمان الواحد، وكل شيء في مريم يسبّح الله ويمجّده”. وتحت عنوان “أيتها العذراء مريم”، ارتمى بين ذراعيها طالبًا الحماية والمعونة لأنّها أمّ الله. وتحت عنوان “أنت ونحن!” دعا مريم الطاهرة، والفقيرة والحرة إلى الصلاة “من أجلنا نحن الخطأة”!. وتحت عنوان “أيّتها العذراء” دعا مريم إلى أن تعزّيه وتقوّيه وترأف به وتباركه وترشده إلى الخير والسعادة. وتحت عنوان “السّلام عليك!” تابع الكاتبُ نداءه مريم “الملكة، أمّ الرّحمة” أن تتشفّع وترشده إلى يسوع “للانعتاق من هذا المنفى”. وتحت عنوان “في المسبحة” توقّف عند المسبحة التي هي “سلسلة الحبّ التي تربطنا بيسوع بوساطة مريم”. و”المسبحة الورديّة صلاة يرفعها بشرٌ يخاطبون الله…”.

guilaf mariam

بعد مريميّات، “على خطى مريم (نسائيّات)” ضَمَّت سبعة وعشرين عنوانًا (ص87 – 118  ضمناً).

تحت عنوان “إلى الإصلاح” قال: إنّ إصلاح الحقول والأرض واجب، كذلك “ينبغي للنّفس أن تصلح ذاتها”. وتحت عنوان “نعم الله” ذكر أنّ “الله سيّد المستحيل”. ودعا الله إلى أن يجعلنا “مستعدّين لنيل نعمه!”. وتحت عنوان “دعاء” حثّ النّفوس على أن تساعد الله “ليُفيض النّور على النّفوس العمياء”. وتحت عنوان “سُلّم القيم!” رأى أنّه مع مريم نحسن ترسيم سلّم القيم، وأنّه يسعنا البحث عن الخيرات الحقيقية التي تُسبغ علينا. وتحت عنوان “من وحي مريم” رأى أنّ لسان القداسة والعذوبة لا ينطق إلّا باسم مريم. ودعا كل بنت إلى أن تزيد حسناتها. ورأى أن لمريم دوراً عظيمًا في الكنيسة. كما رأى أن زيارة المعابد المكرّسة لمريم إنما اعتراف بأنّها ابنة البشر وامّ الله. وتعجّب من عدم شعور الناس بقربهم من مريم، ومن عدم فهم التعلّق البنويّ لدى ملايين من المؤمنين بمثال أنثويّ هو مريم. وتحت عنوان “من وحي عذراء الرّحمة، مدريد، متحف البرادو (1630 – 1635)” أظهر “عذراء الرحمة واقفة في وسط رموز بليغة. وعبر هذه الرموز البيبليّة، وحتّى في غياب صورة المسيح، نرى حضور البشريّة كلّها من البدء حتّى النهاية”. وتحت عنوان “من وحي العذراء الصغيرة، نيويورك، متحف المتروبوليتان (1630)” صرّح بأن مريم لا تدعونا إلى عبادتها بل إلى العبادة. فالرّسوم حولها تشير إلى الإنسانية الباحثة عن النّعمة. وتحت عنوان “بساطة؟” ذكر أن صلوات الجماعات والصلوات الشخصيّة ليست خرافة. هذه طرائق بسيطة تفضي إلى اكتشاف شخصيّ حقيقيّ للمسيح. وتحت عنوان “لم تخدعني أمّي” أكّد أنّ أمّه التي درجت على تكريم مريم لم تخدعه. وتحت عنوان “من حوّاء إلى مريم” أعلن أنّ “نساء البشريّة حاضرات في الكتاب المقدّس”. من حوّاء إلى مريم شاركت “في مسار تاريخ الأراضي المقدّسة وغيّرت مجرى الأحداث وشقّت طريق الله إلى البشريّة”. وتحت عنوان “نساء الإنجيل” أعلن أيضًا أنّ “معظم نساء الإنجيل المقدّس شاهدن النور ولم يرفضن النّبأ السّار”. كما أعلن أنّ “وراء يسوع اثنتي عشرة امرأة، منهنّ أمّه والمجدليّة”. وتحت عنوان “المرأة في زمن مريم!” ذكر الكاتب واجبات الزوجة اليهوديّة الصالحة، وكيفيّة اختيارها زوجة، وكيفية إتمام الزواج ليصبح رسميًّا، والأسباب التي تجيز للزوج أن يطلّق زوجته وما يترتّب على طلاقها. وتحت عنوان “ما وراء القوانين” رأى أن “لا ذنب كبيرًا للقوانين في الممارسات الذكوريّة. والمرأة، وقبل الرجل، يمكنها أن تغيّرها عبر تربية أبنائها وبناتها الذين هم في عهدتها اوّلاً”. وتحت عنوان “بداهة؟!”رأى أيضًا أنّ “لكل امرأة ملكة وخصوصيّة فرديّة كما للرجل”. وهي مثل الرجل أو أكثر تتابع عمليّة الخلق والتربية. وتحت عنوان “المرأة في ميزان المعلّم الإلهيّ!” رأى أنْ “لا تمييز عنصريًّا لدى يسوع بين المرأة والرجل، ولكنّ تمايزهما قائم في واقع الحال”. وبين يسوع والمرأة “تفاهمٌ ما خفيّ رمزيّ وإنّما وثيق وخصب”. وتحت عنوان “نموذج مريم الأموميّ”  رأى أيضًا أنّ “المرأة، بسرّ الزّواج وباتّحادها المكرّس بالمسيح، هي رمز خاص للكنيسة وخطيبة المسيح، ولكن أمّ الله هي أوفر النساء اتّحادًا بالمسيح. لذا، على المرأة رسالة تقليد مريم”. وتحت عنواني “صديقة مكرّسة” و”إلى مكرّسة متردّدة” دعا صديقته المكرّسة ليسوع إلى أن تتّحد به “اتّحادًا قلبيًّا وثيقًا” فهو “يحيا فيك ويرتضي في سرور أن يكون معك واحدًا”. وتحت عنوان “إلى مكرّسة متباعدة” حثّ الكاتب كل مكرّسة متباعدة على أن تحدّث يسوع وتستشيره وتسأله وإلّا يكن “نقص في الاتّحاد، في الحياة الدّاخلية، في الحبّ”. وتحت عنوان “تكرّسي في سبيل الخطأة” حثّ أيضًا المكرّسة لخدمة يسوع على أن تسعى “لتتميم رغائبه في غيرة ونشاط… هكذا تزيدين مجده وتكفّرين عن إهانات البشر”. وتحت عنوان “إلى ممرّضة متفانية” حثّها على “أن تكفّر عن الإهانات التي توجّه إلى يسوع أو إليها” وعلى أن تجعل قلبها ” متّحدًا بالغيرة والغيريّة والحميّة التي تلتهم قلبه”. فالمخلص يريد “أن يكون سعادتها ومكافأتها”. وتحت عنوان “إلى طالبة مكرّسة” طالبها “بالصّداقة القلبية الخالصة مع من هو المحبّة الكاملة”. بتأمّله حتّى تتعلم منه كيف تحبّ. “أحبّي فتوهب لك القوّة”. يريد الإله أن تحبّه النّفوس وتبرهن له محبّتها بأعمالها. وهو يكنُّ المحبّة لنفوسه المختارة وقد أعدّ لها مسكنًا خاصًا مصطفى. “كوني رسالة حياة ومنارة في سماء المعرفة والرّوح”. وتحت عنوان “المرأة العاملة”  أعلن أنّ “المرأة العاملة هي أمّ الكون، لأنّها بانية الأسرة وخالقة الوطن والمعلّمة الأولى في مدارس الحياة”. وتحت عنوان “الخلاص بالمرأة!” أظهر أنّ ” كلّ امرأة أمّ مخلّص بالقوّة. خلاص الرّجل بالمرأة”. وتحت عنوان “الإيمان والمرأة” قال: “الإيمان ثمرة الحب بين يسوع والمرأة. إنهنّ (النساء) قامات سُكبت في الخليقة من روحيّة خالقها”. وتحت عنوان “حلم يقظة” سمع يسوع “يخاطب نفوسه المختارة قائلاً: إن كنت ضعيفة، خائفة، التجئي إليّ فأعضدك”. ويا أيّها “العائشون محفوفين بالأخطار الكثيرة لا تهبوا شيئًا فسأدافع عنكم وستجتازون الخطر ظافرين”. وتحت العنوان الأخير “إلى مكرَّسات… وكهنة وأخرين!” خاطب المتقدّمين إلى مذبح الرّبّ قائلًا: “سيلبسكم يسوع سلطته لتتمكّنوا من أن تحلّوا النفوس من خطاياها… وتقتادوها إلى الحقيقة والفضيلة”. وقد حذّرهم يسوع من نسيان رسالة الحبّ، من عدم إتمام واجبات خدمته… من خيانته.

roses 2

✹✹

بعد المرور الهادئ بكتاب “في رحاب مريم” والخروج منه، يمكنني استخلاصُ هذه العلامات الأربع على الخصوص:

  1. إعلان الكاتب إيمانه العميق والثابت بالرّبّ يسوع وتعاليمه، وبأنّ مريم هي أمّه المصطفاة وليست الإلهة – الأمّ، وبأنّها جسّدت الحبّ الإلهي، وهي الأولى في رحاب مريم. وهي طريق الإنسان إلى يسوع، وعذراء دائمة والشّفيعة وذات المكانة الفريدة، وحاضرة في صميم الأسرة وفي صميم الكنيسة.

لذلك، على كلّ امرأة-أم أن تقتدي بمريم وتقلّدها. فالمرأة العاملة هي أمّ الكون، وخلاص الرّجل إنّما بالمرأة؛ فهي أمّ مخلّص بالقوّة.

ويسوع هو المرشد الوحيد (كذلك نور الرّوح القدس)، وهو السّعادة الكاملة والسّلام والمحبّة والرّحمة والمخلّص. وهو لا يميّز بين الرّجل والمرأة.

لذلك، يجب تجسيد أخلاقيّات المسيح، والتّربية عليها. وعلى كلّ مكرَّس ومكرّسة الاتّحاد بيسوع اتّحادًا قلبيًّا وثيقًا، وخدمته، والحفاظ على الأمانة.

  1. إعتماد الكاتب منحى فكريًّا “توفيقيًّا بين الجوهر والوجود”. فهو يرى أنّ العقل البشريّ هو علّة المشاكل والشّرور، والفلسفة الحقّة تطابق الوحي الإلهي. لذلك، يجب “روحنة” هذا العقل بقيم الحياة الرّوحيّة والمثُل العليا، والتوفيق بين الإيمان والعقل؛ ومعادلته هي أنّ “الإيمان بلا عقل تعصّب، والعقل بلا إيمان إلحاد”.
  2. إعتماده أيضًا التّوفيق بين النّمطين العقليّ المنطقيّ والوجدانيّ التّأمّليّ. وهذا نتيجة طبيعيّة وصحيحة وسليمة لفلسفته التوفيقيّة بين المادّة والرّوح، الوجود والجوهر، العقل والإيمان، (وتغليبه الإيمان المتعقّل). وهذا يدعم منحاه الفكريّ التوفيقيّ.
  3. إتّباعه الأسلوب التّوفيقيّ أيضًا بين الموضوعيّ المُبسَّط والأدبيّ الجميل. ويظهر الأدبيّ خصوصًا في العناوين التي وردت في هذهِ الصّفحات (والتي تؤلّف ما يقرب من نصف عناوين الكتاب):

11-12-19-21-23-28-29-33-38-39-43-44-46-49-50-51-65-67-68-71-78-80-81-82-83-87-89-108-109-110-111-115-116-117.

flowers 5

✹✹✹

في عصرنا هذا، عصر المادّة، (والتّكنولوجيا الباهرة السّاحرة)، التي تَحرِفُ الإنسان عمومًا، في معظم المجتمعات الغنيّة وغير الفقيرة، عن القيم الرّوحية الغالية والمثُل العالية، فتصرفه إلى الأنانية والطّاووسيّة والتّسلّط والطّمع والمصالح الخاصّة الضيّقة (فردًا ودولًا)، وكذلك تصرفه، في معظم المجتمعات الفقيرة، إلى التّعصّب والحقد والظّلم والعنف والانتقام… (وهذه تحرفه عن القيم الإنسانيّة الحقّة)…، في هذا العصر يحتاج البشرُ كثيرًا إلى الاعتدال واعتماد التّوفيق بين المادّيّ والرّوحيّ، وترجيح الإيمان السّليم والرّوح على العقل الصّارم وحماية التّعاليم السّماويّة الحقّة الحقيقيّة من البدع الفاسدة المفسِدة والمشوِّهة… وإلّا “فالويل والثّبور وعظائم الأمور”، وإلّا فربّما النّار والخراب والدّمار الشّامل!

ربّاه، نَجِّنا من “تقديس العقل” وتدنيس الرّوح، من عملقة المادّة وتقزيم الرّوح، وكَثِّرْ من أمثال الصّديق د. جهاد نعمان يجهد (وآخرين أمثالَه في العالم) فكرًا وكتابة وممارسة في سبيل “رَوْحَنَةِ” العقل وعقلنة الإيمان، والتّوفيق “بين الجوهر والوجود” فتَسلمَ البشريّةُ وتزدهرَ وتنتصر.

ساقية المسك – بكفيّا /  يوليو  2016

flowers 4

اترك رد