مازن ح. عبّود
التقيته حيث يعمل، في مكتب صديق. وقد علمت بأنه قادم عبر الحدود، فأحببت ان اسأله من يكون وقد اعجبتني لباقته وخبرته ومعرفته. فكان ان افضى لي ببعض مكنونات قلبه. لن اذكر اسمه فقد تكون قصته لآلاف بالرغم من فرادتها، كل ما اعلم هو انّ كلماته شقت دروب قلبي.
قال:
“البارحة كان لي أب، وكان ابي كبيرا كبر الدنيا. بالأمس كان لي مدينة وكانت حلب رائعة الجمال. بالأمس كان لي سائق وسيارات من أحدث الموديلات، بالأمس كانت عائلتنا من العائلات المعروفة، وكان بيتنا يعج بالضيوف. بالأمس كنت شابا تتمناه أفضل نساء المدينة. بالأمس كانت الناس توافي الى ابي طلبا للوظائف والخدمات. وقد كان المطران لا يفارق منزلنا، وكنا نجتمع بالكنيسة، وقد كنا جميعا الكنيسة، هذا كان بالأمس وما ابعد الامس عن اليوم
اليوم رحل سند البيت وصرنا بلا بيت. هدمت مدينتنا، وتوارى مطراننا قسرا. ضعفت كنيستنا، اختفت بيوتنا، واحترقت سياراتنا وايامنا. صرنا بلا مأوى، فتشنا في دفاتر الاجداد عن منزل، فوجدنا منزلا هجرناه في قرية كانت لجدي، فسكنته امي واختي. اما انا واخوتي فقد همنا هربا من الحرب، صرت ابحث عن عمل، أي عمل كي اعيلهم، ونقتات.
صرت رقما، جلست على قارعة رصيف الأيام اتوسل العابرين. وها إني اليوم انتظر تأشيرة كي اذهب الى ارض بعيدة وغريبة، ابكي ابي هناك وحيدا وعلى مهل، اعيد رسم بلدي ومدينتي وعائلتي ومستقبلي. اذهب علني أجد الوطن في الغربة. لا تقل عني شيئا فاني لا اتقن صناعة الحرب ولا طرائقها ولدي عائلة كي اعيلها.
نعم إني لا افهم في لغة البارود والنار ومرادفاتها، لا افهم في مصالح الدول ورسائلها واسلحتها. علمني ابي انّ السلاح الابلغ هو المحبة، فأحببت حتى هرب قلبي مني. تعلمت ان التسامح هو الفضيلة الأكبر، فسامحت حتى ضعت ونسيت من أكون. قيل لي انّ الناس اخوة، استفقت فوجدت نفسي وحيدا في غابة وحوش، الى ان بان في عتمتها لي ومضات نور، فأدركت انّ الله ما زال معي. دودة انا في صخرة وفي ارض غريبة ولا أجد لي معيلا، فار مم لا اعلم بحثا عن سراب، بحثا عن فسحة امل، بحثا عن حلم او عن سلام. كنت ما كنت بالأمس، وما كان يعوزنني شيء. كنا ما كنا وكان ابي. لا اعلم ما حصل وكيف انقلبت الدنيا هكذا سريعا؟ آه يا وطني كيف تغيّرت هكذا؟
صرت عبئا على جيراني وحملا على البلدان. مشكور لبنان على استضافتنا، لكن الضيف يبقى يبحث عن وطن، عن هوية مسلوبة. حملت وطني وتاريخي قصة وقررت ان امضي كي اسطره ما بين النجوم، اسطره قصة اب غادر وارض حضارة أحرقت، ومدينة لا تنتسى.
كنا وكانت حلب. لا اريد ان أعلق في مسلسلات الدم التي لا تنتهي. دخل اصحابي الحرب أناسا فصاروا وحوشا، أضحوا يحتسون الدم ويتغذون بالأشلاء حتى غدوت لا اعرفهم. قالوا انهم يذودون عن الحضارة كي لا تلتهمنا الوحوش، فتغيّروا.
وفي الحرب يقتل الانسان كي لا يقتل، يصير وحشا كي لا تلتهمه الوحوش. هم يذودون عن الأرض وفق قواعد هذا العالم، اما انا فقد قيل لي إني لست من هذا العالم. إني لا اقوى على القتل حتى في سبيل الأرض.
سامحيني يا سوريا فاني لا أؤمن في القتل حتى في سبيل الحياة، وها انا افر وحيدا. قد يقول البعض إني جبان، الا إني ما انا عليه، اعيش قناعاتي، وارضي فسحة من ضميري اشهد لربي فيها على طريقتي. لا تقل شيئا عني فأني حتما سأعود. احبك يا امي واحبك يا ارضي”.
كانت هذه كلماته وقصته. فقصته قصة شاب خسر كل شيء الا وجه ربه الذي مازال ينير طريقه. قصته قصة شاب متألم من قومي لم يجد في أيامه العجاف بالقرب منه الا قلة عزيزة وضعها الرب على دربه كي لا تصير حياته ظلاما.
لا اعلم لماذا كلماته قد اخترقتني؟ خرقتني كلماته وذلك بالرغم من اني لا اوافقه في ترك الديار والسفر حلا الا اني اتفهمه ولا ادينه.
لا اعلم فعلا لم كلماته خرقت قلبي! أيكون ذلك نتيجة شعوري باننا لم نقم بما يكفي كي نصونهم ونمنع تفكك النسيج المشرقي؟ نعم، أترى ماذا اعطيناهم او صنعنا لهم بغالبيتنا؟؟ لقد اعطيناهم القليل من الكلمات المعسولة والمشاعر الفارغة ان وجدت، وما فاض عنا من الأشياء. لكن، هل تخليت مثلا عن شراء بذلة كي أسهم في تثبيتهم في ارضهم؟ ام تخليت عن ارتياد مطعم راق لو مرة في الشهر لإعالتهم؟ كم كاهنا من كنيستنا باع صليبا من صلبانه كي يسهم في تعزيتهم؟ أو هل على الأقل توقف رئيس دير ما يفتش عن مجد شخصي عن بناء او تجميل جناحه الخاص وأعاد ترتيب أولوياته وفق انجيله؟ كم مطران باع ايقونة صدره مثلا كي يبقى الناس الايقونة والصدر في الكنيسة؟
أو ليسوا هم الايقونة والكنيسة؟ أو ليست مدائنهم مدائننا والوحش قد صار على الأبواب في القاع ورأس بعلبك واللبوة؟
اعذرونا يا اعزاء لاننا لا نعرف أنكم تراب الأرض الذي ننبت فيه. لا ندرك انه إذا ما تعرت الأرض سقطت الحياة، وببساطة تصحرنا. ومن ثمّ تتوحل أوروبا بفعل عوامل التعرية عندنا. تتوحل أوروبا، والشرق يتصحر من زرعه وقيمه وتاريخه وحضارة المحبة. فيغرق العالم، كل العالم عندها في الوحل، ويصير صفاء العيش فيه سرابا. انهم نحن ونحن هم، فلنستفق ولنعمل ولنصلي لاجلهم…