عبد اللطيف فاخوري
(محام ومؤرخ- لبنان)
حضر الى بيروت صديق هاجر الى أميركا منذ زمن طويل وطلب مني اصطحابه الى مقهـــــى الحاج داود في خليج الزيتونة لتناول صحن فول . فأعلمته بما حصل من تغيير طال المكان والسكان فى هذا المقهى وفي مختلف مقاهي الزمن الجميل .
المقاهي كثيرة في بيروت عرفها البيارتة منذ عهد بعيد . وصف بعضها هنري غيز قنصل فرنسا في بيروت في مذكراته الصادرة سنة 1847م « . وجدت المقاهي داخل سور المدينة ، في الخانات وقرب الحمامات وكان لكل سوق مقهى يجتمع فيه أبناء طبقة أو حرفة معينة مثل مقاهي النجارين واللحامين والدباغين الخ . في سنة 1266 هـ /1849م كان مصطفى آغا القباني يملك حق إستثمار حمام السراي والحمام الصغير وعشر قهاوي واحدة منها خارج المدينة في محلة عصّور ، وتسع داخل المدينة هي قهوة قيساريــــــــــة التوتة / الحرير وقهوة النوفرة قرب جامع الأمير منذر وقهوة المحكمة ( أي المحكمة الشرعية القديمة في محلة البازركان) تجاه زاوية القصار وقهوة العسس ( الحراس) في ساحة الخبز الخ .
اكتسبت بعض المقاهي شهرة خاصة كقهوة القزاز ( الزجاج) في ساحة البرج التي أنشأها محمد أبو النصر اليافي واشتهرت بتقديم مسرحية القراكوز قديماً ثم ببرنامج تمثيلي من الراقصتين سارة وسارينا . وقهوة سوق البازركان التي اشتهرت لدى البيارتة باسم قهوة « خبيني « ولها حكاية سنذكرها في حينه .
وفي غياب دور للقراءة كان الأدباء والشعراء يجتمعون في المقاهي كقهوة فتوح التي كانت مقسومة الى منطقتين أمامية للسهرات العادية حيث لا يسمع إلا طقطقة الطاولات وخشخشة الزهر وطرطقة الدومينو الخ وخلفية للشعراء والأدباء . ثم أخذ هؤلاء يقصدون قهوة أبو متري في ساحة البرج وقد امتدت سهرتهم ذات ليلة حتى ساعة متأخرة من الليل فلما انفضت الجلسة عند الساعة الثالثة صباحاً تناول أبو متري مكنسة وأيقظ الجرسون النائم على الكرسي وقال له : قوم يا إبني كنّس أشعار .وقيل ان الشاعر كامل شعيب العاملي نظم ليلتها قصيدة من 143 بيتاً من الشعر المقفى الموزون في محاسن الخيار المكبوس .
وكانت السلطة تصدر التعليمات لتنظيم دوام المقاهي ففي سنة 1866 م تقرر إقفال جميع المقاهي عند الساعة التاسعة مساء وفي سنة 1876 م مدد دوام الفتح حتى منتصف الليل . إلا أنه بالنظر لكثرة المنازعات في المقاهي قرر والي بيروت سنة 1888م قفل الحانات عند الغروب .ثم تقرر سنة 1903 منع شرب المسكرات فيها .
أما المقاهي الكائنة خارج السور أو مقاهي الساحل فكانت تمتد من قهوة المدور لصيق شاطىء البحر في الصيفي مروراً بمقاهي المرفأ وبمقهى الحاج داود وصولاً حتى الغلاييني ، وكانت تقدم إضافة إلى الأركيلة والقهوة والشاي والمرطبات مأكولات البحر كالسردين والسمك وكذلك المقالي ( باذنجان وقرنبيط ) والسلطات والحمص والفول .
وكانت المقاهي ترد في الوثائق بلفظة « بيت « أو بعبارة « أوضة معدة لعمل القهوة « . منها قهوة نعيم أفندي التي عرفت أيضاً بقهوة لوقا ( مستأجرها ) ونعيم أفندي قدم الى بيروت سنة 1845 م بإسم ناظر الأوقاف وكان له مع شيخ الإسلام قرابة ، فأخذ وثائق الأوقاف واستولى على بعضها ومنها القهوة المذكورة التي حصل نزاع حولها مع بني عز الدين ( ذكر في كتابنا : البيارتة ) وعرفت بقهوة الحمراء في الزيتونة .وقهوة جبور الخوري قرب مقبرة السنطية وقهوة مروش التي انشأ أولاد عبد الله بيهم مكانها سنة 1887 م في دار المريسة جامعاً باسمه تكريماً لذكراه .
ومن المقاهي القديمة فهوة الحاج داود خطاب التي بقيت حتى بداية الحرب اللبنانية مقصد الزوار من لبنان وسورية . وأسرة خطاب من أسر بيروت الإسلامية العريقة وجدت في بيروت قديماً زاوية باسم جامع شمس الدين أو الجامع الجديد كان قائماً في سوق البازركان وهدم سنة 1949م وآخر من تولى التدريس فيه الشيخ محمد سعيد الجندي أحد مؤسسي جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية . والشائع لدى البيارتة أن شمس الدين المذكور هو الأمير شمس الدين « الخطاب « احد المجاهدين الذي قتل أثناء الحروب الصليبية ودفن في الجهة الشرقية من الجامع وكتب على ضريحه:
لشمس الدين مولانا محمد
كرامات له بالفضل تشهد
أمير مات في الدنيا شهيداً
وفي هذا الضريح لقد توسد
ومن أبناء الخطاب قديماً التاجر الحاج علي بن الحاج علي خطاب وكان يملك عدة قطع أرض في محلة ميناء الحسن منها قطعة كبيرة يحدها وفقاً للوثيقة المؤرخة فــــــي 20 جمــــــــــادى الأولى 1281 هـ / 1864 م شمالاً مقبرة الموارنة وشرقاً المقبرة الفرنساوية وكانت تلك القطعة تحتوي على ثلاثة أماكن وجنينة بها أغراس وبئر ماء نابع و « منزول « .ومن أسرة الخطاب حديثاً المربي الشيخ شريف خطاب ( والد الصديق الدكتور سعد خطاب ) الذي أسس مع عزيز مومنه مدرسة دار التربية والتعليم في البسطة ثم استقل الشيخ شريف بمدرسة خاصة به بالإسم ذاته .
أما قهوة الحاج داود بن عبد الكريم خطاب فقديمة العهد لم يحدد زمن إنشائها ويستدل على قدمها من وثيقة مؤرخة في 22 رجب 1307 هـ ( 1890 م ) وموضوعها مقاسمة قطعة أرض بين ورثة والي سورية الشهير مدحت باشا ( أبو الإصلاح ) تمت بحضور ابنته فاطمة ممدوحة التي قررت بان والدها « كان يملك قطعة ارض معروفة بأرض المسلخ الكائنة في محلة المجيدية من محلة ميناء الحسن يحدها شمالاً وشرقاً بعضه البحر وبعضه قهوة الحاج داود بن عبد الكريم خطاب وسعدى بنت حسن بلوز…» .
ويبدو ان مدحت باشا عندما زار بيروت والياً سنة 1878م وتوجه الى شاطىء البحر عند الطرف الشرقي لخليج الزيتونة ، دخل إلى قهوة الحاج داود وأعجب بموقعها فاشترى قطعة أرض ملاصقة لها .
وقد اشتهرت قهوة الحاج داود بزبائنها ولا سيما الشوام منهم أيام الجمع كما اشتهرت بموقعها الداخل في البحر وكانت راكبة على أعمدة خشبية وأرضيتها من الخشب أيضاً وقد بلغ من قدمها حدوث ثقوب وتآكل بفعل الزمن في بعض ألواح خشب الأرضية بحيث أن كثيراً ما كان الحماس يستبد بأحد لاعبي النرد ( الطاولة . سميت كذلك باسم الكعب الأبيض الذي يطرح وله ستة جوانب مرقوم عليها نقط سوداء من الواحد إلى ستة وللطاولة كعبان يطرحان من اليد معاً ) فيطرح الكعب بشدة فيقع من الثقوب الأرضية الى البحر ، ولذلك كانت الطاولة تحوي على زوجين من الزهر.
كان الزبائن المحليون يقصدون مقهى الحاج داود باكراً لتدخين أركيلة أو تناول صحن فول الذي كانت تحف به وتحيطه سبعة ألوان : الأحمر الداكن من البندورة والأحمر البنفسجي من الفجل والأخضر الداكن من النعنع والأخضر الفاتح من البقدونس والأبيض من البصل والأسود من الزيتون والأصفر من الزيت ، فإذا صح القول بأن الأذن تعشق قبل العين احياناً ، فصح أيضاً أن العين تأكل قبل الفم .
وعدت لصديقي لأخبره بأن خليج الزيتونة لحقته العجمة فأصبح « زيتونة باي «. وأن الحاج داود لم يعد مرغوباً به في الزيتونة الجديدة ، لأن الزيتونة باي تفرض على أمثاله شروطاً أين منها شروط المسكوب ( وهي الشروط التي فرضها الروس على العثمانيين في سان ستيفانو على أبواب اسطنبول إثر حرب البلقان ) ولأن السر في السكان فغالب الظن أن أمثال الحاج داود لا يستهويهم مايكل جاكسون ولا يميلون الى موسيقى الروك ، فالزيتونة الشرقية أصبحت غربية ، ولكل زمان زيتونة وزبائن .