مئوية سايكس-بيكو: تصويب بوصلة النّقاش

khaled-ghazal

 خالد غزال

(كاتب وباحث- لبنان) 

أعادت الذكرى المئوية لاتفاق سايكس – بيكو عام 1916 النقاش حول مسؤولية هذا الاتفاق عن المصير الذي يضرب المنطقة العربية راهناً من تقسيم وشرذمة وحروب أهلية متناسلة. من الضروري النظر ملياً إلى هذا النقاش لتبيان ما هو حقيقي في مضمونه وما هو عملياً خارج الموضوع بل مسيء للعقل العربي جملة وتفصيلاً. ما هو حقيقي أن الاتفاق البريطاني الفرنسي أتى في سياق مشروع السيطرة الأمبريالية على المنطقة واقتسام تركة “الرجل المريض” وتوزيع الحصص في سياق استعمار البلدان العربية. وما هو حقيقي أيضاً أن الاتفاق أتى يضرب عرض الحائط وينكث بوعود بريطانية للعرب بإعطائهم الاستقلال وإقامة دولتهم العربية في بلاد الشام والجزيرة العربية.

لكن ما ليس بحقيقي هو اتهام الاتفاق بتجزئة المنطقة العربية وتركيب أوهام عن الوحدة العربية القائمة. ما قام به الاتفاق أسس لكيانات عربية عبر ضم وإلحاق وإلصاق على قاعدة موروثات قائمة في المنطقة، طائفية وعرقية وإثنية، فبنى عليها هذه الكيانات الهجينة ونصّب فرنسا وبريطانيا أوصياء عليها تحت تسمية الانتدابات. ما يجب التذكير به أن المشروع الاستعماري البريطاني الفرنسي لم يجد أمامه دولة موحدة فعمد إلى تجزئتها كما يسود لدى نظريات قومجية كانت ولا تزال سائدة. المشروع الاستعماري وجد أمامه تجزئة عربية فبنى عليها وعمّقها وأعطى بعضها شكل دول بصرف النظر عن المقومات اللازمة لبناء الدولة.

لكن النقاش الذي يغيب عن كثيرين ما يزالون يعيشون قرناً إلى الوراء، أن هذه الكيانات تحولت على امتداد عقود إلى دول فعلية لها مجتمعاتها ودساتيرها وقوانينها المحلية وعلاقاتها الدولية والعربية، وخاضت نضالاً ضد دول الاستعمار الانتدابي ونالت استقلالها. أي باختصار باتت هذه الكيانات تحوي أرضاً وشعباً وسياسة، أي كل مقومات الدولة باتت في متناول يدها. مما يجعل السؤال الحقيقي المطروح : لماذا انفجرت هذه الدول بعد قرن من الزمان، وهو انفجار حاصل لدى بعضها، فيما تنتظره دول أخرى؟ ولماذا عجزت هذه الدول عن إنجاز وحدتها الداخلية قبل أن تجد نفسها في أتون الصراعات المحلية؟ ولماذا عجزت الكيانات العربية عن قيام وحدة بين أقطارها فيما يدعي ساسة ومثقفون بأن اتفاق سايكس بيكو جزأ هذه الوحدة؟ ثم لماذا انهارت وتنهار هذه الدول والكيانات لصالح انبعاث العصبيات الطائفية والعشائرية والقبلية والإثنية؟

وأخيرًا، لماذا استعصت المجتمعات العربية على الحداثة؟ تلك هي الأسئلة التي تطرحها مئوية سايكس بيكو، وليس ذلك النحيب المؤامراتي الذي يريد أن يلصق مآسي مجتمعاتنا العربية باتفاق مضى عليه قرن من الزمان ولم يعد المطروح ما قام به بمقدار أن ما هو مطروح مسؤولية مجتمعاتنا ونظمنا السياسية عن المصير الذي تعيشه المنطقة العربية اليوم.

picot

ليست المجتمعات العربية فريدة في بابها لجهة الانقسامات الداخلية بين بناها ومكوناتها الاجتماعية، فتاريخ الدول إجمالاً هو تاريخ انقسام وتقسيم وتوحيد مجتمعاتها وتحقيق الاندماج الاجتماعي فيها. كيف حصلت عملية التوحيد في مجتمعاتنا العربية وما الطريق الذي سلكه، مسألة لا علاقة لها بمسؤولية اتفاق سايكس بيكو. فالدول التي نجحت في تحقيق وحداتها الداخلية وحققت اندماجاً اجتماعياً، اعتمدت على تسويات داخلية انطلاقاً من الاعتراف بحقوق المجموعات التي يتكون منها البلد، واستطاعت تباعا أن تحل محل الإختلاف والتناقض نوعا من التقارب وصولاً إلى وحدة نسبية بين مكوناتها. في كياناتنا العربية، خصوصاً بعد مرحلة الاستقلال حيث المسؤولية باتت تقع على النخب العربية التي أمسكت بزمام السلطة، فإن عملية الاندماج قامت على قاعدة قهر وسيطرة أكثرية أو أقلية على سائر المكونات. والمشترك في عالمنا العربي، أن الأكثرية عندما تحكمت، مارسات استبدادًا واغتصاباً لسائر حقوق المجموعات الأخرى، والأمر نفسه بالنسبة للأقلية التي مارست استبدادًا أشد على الأكثرية وعلى سائر المجموعات. لقد بدا واضحاً أن الاستبداد لا يحقق الاندماج الاجتماعي، بل يؤجل الإنفجار إلى مرحلة لاحقة، وهو ما يشهد عليه العالم العربي اليوم في بعض أقطاره، حيث تنفجر المجتمعات وتتحول إلى تناحر أهلي دموي بمجرد إزالة بلاطة الاستبداد عن وجهها.

عامل آخر يجري تغييبه عن أسباب الانفجار في العالم العربي ويلصق زورا باتفاق سايكس بيكو، هو مسؤولية النخب العربية عن التخلف الاقتصادي والاجتماعي الذي ما تزال تتربع الشعوب العربية على عرشه. تقدمت النخب بوعود ضخمة إلى شعوبها لتحسين مستوى المعيشة وتحقيق الديمقراطية والحق في الممارسة السياسية، ناهيك بالاستحواذ على الثروات تحت حجة بناء الجيوش من أجل تحرير الأرض المغتصبة..وغيرها من الوعود البراقة. ستجد الشعوب العربية بعد عقود من الوعود أن ثرواتها قد نهبت، وأن نسبة الفقر والأمية والبطالة والتهميش تحتل الموقع الأول بين شعوب العالم، وأن الفساد قد انتج طبقات طفيلية استحوذت على ملايين الدولارات وتحكمت بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية، والأكثر فداحة هو الهزائم المتتالية أمام العدو الصهيوني، من دون أن يرف جفن لحاكم في تقديم كشف حساب لشعبه عن هذا الإنهيار المتعدد الأبعاد.

وإذا كان اتفاق سايكس بيكو متهما بمنع تحقيق الوحدة العربية، فلماذا لم تتحقق هذه الوحدة بعد ان نالت الدول العربية استقلالها؟ لا أحد ينكر أن مشاريع وحدوية جرت تجربتها سواء بين مصر وسوريا، أو بين أقطار ليبيا ومصر والسودان، أو بين العراق وسوريا، أو العراق والكويت .. لكنها فشلت فشلاً ذريعاً لأنها افتقدت إلى التوافق بين شعوب البلدان المدعوة إلى الوحدة. فالمشاريع الوحدوية لم تكن سوى مشاريع تسلط بلد على آخر وقهر شعب لشعب آخر، لذا لم يكن غريبا أن تفشل ويصبح الطموح في كل قطر هو الانكفاء على نفسه، وإدارة علاقات عامة مع الجيران. إن وحدة لا تعتمد على توافق الشعوب ديمقراطيا يستحيل أن تحقق النجاح. وهنا سر فشل مشاريعنا الوحدوية.

في زمن الانتفاضات العربية القائمة منذ أكثر من خمس سنوات، وبعد انفجار المجتمعات في دول الانتفاضات وسيطرة تنظيمات إرهابية أصولية على مساحات من الأراضي، تسود نغمة تعيد سبب هذه الانفجارات الى اتفاق سايكس بيكو. من الضروري التمييز في الانتفاضات العربية بين أسباب قيامها، وبين المسار الذي سلكته ولا تزال. ليس الإتفاق سببا في قيام الانتفاضات، ولم تقم هي أصلا جوابا عن التقسيم الجغرافي، بل قامت هذ الانتفاضات نتيجة استبداد الأنظمة القائمة ومسؤوليتها المباشرة عن القهر والفقر والتخلف والغاء الحياة السياسية.. أما عن المسار الذي سلكته وتسبب في حروب أهلية، فإنما يعود في الأصل إلى أن زوال الاستبداد أدى كشف التناقضات التي تعتمل في جسم هذه المجتمعات، وعن انبعاث الموروثات التي عملت الدولة على امتداد عقود على تجاوزها، فكان فشل الدولة العملي العنصر الذي فجر هذه التناقضات وأعطى هذه الانتفاضات مسارًا سمته الأساسية التنازع الأهلي. وهو أمر لا صلة له بسايكس بيكو، بل هو نتيجة استعصاء المجتمعات العربية عن الدخول في الحداثة وعن مواكبة تطلعات العصر وحاجات الشعوب فيها.

في الختام، بات معيباً في مجتمعاتنا العربية أن نهرب من محاسبة الذات ونلقي فشلنا على المؤامرات الخارجية. لا ننفي وجود مؤامرات دولية تجوب العالم كله، لكن أي مؤامرة يصعب عليها أن تنجح إذا لم تجد قنوات داخلية تسهل لها المرور وتستقبلها. إن حاجة مجتمعاتنا ماسة جدًا لقراءة تناقضاتها الداخلية ومعالجة مشكلاتها بنفسها، بعيدًا عن تعليقها على مشجب العوامل الخارجية. تلك دروس سايكس بيكو الفعلية.

اترك رد