د. جـودت هوشيار
(كاتب- لبنان)
هناك كتب تستحق أن يذوقها القارئ ، وكتب تستحق أن يلتهمها ، وكتب تستحق أن تمضغ وتهضم – فرنسيس بيكون
لم أكن أتصور قط أن ألتقي بكريستينا، زميلتي في جامعة الطاقة بموسكو، بعد حوالي ربع قرن من تخرجنا. المصادفة المحض هي التي قادتني الى اللقاء بها مجددأً. كانت المنشأة التي أعمل فيها قد تعاقدت على استقدام عدد من الخبراء البولونيين، وكنا نحن المهندسين العراقيين نعمل معهم، وقد تبين أن العديد من هؤلاء الخبراء قد تلقوا تحصيلهم العلمي في الجامعات الروسية. وكان بينهم خبير اسمه فيكتور نوفاك.
ذات يوم ونحن نتناول طعام الغداء في مطعم المهندسين في المنشأة، قال فيكتور دون مقدمات: ان زوجتي خريجة كلية الهندسة الكهربائية في جامعة الطاقة أي الكلية ذاتها التي درست فيها أنت، وحين ذكرت لها أسمك صاحت: “يا الهي ما اصغر هذه الدنيا؟”.
وكانت مناسبة أن أدعوهما الى تناول المسقوف في مطعم يطل على نهر دجلة في بغداد. كان لقاءً حارأ ومر الوقت سريعا ونحن نتذكر أيام الدراسة، وزملاءنا الروس والأجانب، منهم من تولى مسؤوليات كبيرة في بلده، ومنهم من هاجر الى الغرب. ساد الهدؤ للحظات وخيم علينا نحن الثلاثة سكون أشبه بالحزن. وقطعت كريستينا الصمت لتقول: بحثت في متاجر الكتب في بغداد عن كتب باللغتين الروسية والبولندية ، ولكن دون جدوى. وكما تعلم فإن في عواصم الدنيا مكتبات، أو أجنحة خاصة بالكتب الأجنبية. أما هنا فلا تجد شيئًا الا بعض الكتب الإنجليزية بشق الأنفس. وأنت تعلم أنني درست اللغة الفرنسية، وانجليزيتي المتواضعة لا تسمح لي بقراءة وفهم الكتب بهذه اللغة.
وأضافت بصوت خفيض: هل يمكن أن القي نظرة على مكتبتك، وأن استعير منك بعض الروايات الروسية أو المترجمة الى الروسية، فقد كنتَ تتحدث كثيراً عن روايات فلوبير، وستندال، وكافكا، وبروست، وهيمنجواي، وبونين وشعر لوركا، وإيلوار، ويسينين، وغيرهم.
قلت: يسرني ذلك ما رأيكما في تناول القهوة في بيتي هذا المساء.
وقفت كريستينا للحظات في عتبة باب غرفة مكتبتي المنزلية، وأخذت تجيل عينيها على رفوف الكتب التي تغطي الجدران. وبادرتني بسؤال لم أكن أتوقعه ابدا. قالت بنبرة تشي بالشك والدهشة: هل قرأت كل هذه الكتب؟
قلت: كلّا … لم أقرأ لحد الآن الا الجزء اليسير منها.
فأزدادت دهشتها. وقالت اذن هل هي للزينة أم ماذا؟
قلت: كلا ليست للزينة، ولكن الكتب بالملايين وعمر الإنسان قصير.
– اذن لم كنت تبحث في مكتبات موسكو، وربما تبحث اليوم في مكتبات بغداد عن هذا الكتاب او ذاك وتحاول الحصول عليه ولو بسعر مرتفع. لماذا هدرت وقتك ومالك على هذه الكتب – واشارت بيدها الى صفوف الكتب المتراصة على الرفوف – اذا كنت لا تقرأها؟.
سيدتي: أعتقد أن الكتب ثلاثة أنواع: كتب ينبغي أن تقرأ جزئياً. وكتب خفيفة تقرأ من دون الحاجة الى تركيز أو اهتمام كبير. وكتب – وهي قليلة ان لم تكن نادرة دوما وفي كل العصور – يجب أن تقرأ، كما كتبت، بتأن وأهتمام وتركيز..
أنني أنتقي الكتب بعناية، ومع ذلك اقتنيت كتبا خدعتني عناوينها وأسماء مؤلفيها، و كانت رائجة في حينها، ويتحدث عنها الناس، ويكيل النقاد لها المديح، ولكنها كتب لا تستحق القراءة الجادة. وما اكثر الكتب التي طويتها الى الأبد لأن الصفحات الأولى منها لم تعجبني ، بينها كتب لأدباء مشهورين، فأنا احكم على النص واسلوبه ولا يهمني إن كان المؤلف شهيراً او مغموراً . قيمة الكتاب ليس في رواجه ولكن في قيمته الفكرية والفنية. ولحسن الحظ فإن عدد الكتب من هذا النوع محدود في مكتبتي.
– تقول إن الكتب القيمة قليلة، وان مكتبتك لا تحوي سوى عدد محدود منها، ولكن أرى أمامي مئات الكتب، ربما أكثر من ألفي كتاب؟
– كما ترين فإن لديّ عدد كبيرنسبياً من الكتب العلمية، التي لا أحتاج إليها إلا نادراً، لأنني عند الحاجة أقرأ آخر الإصدارات في موضوع علمي معين يهمني الاطلاع عليه وليس الكتب الصادرة في السنوات الماضية، التي تبلى جدتها، وتتقادم مع الزمن. كما أن ثمة الكثير من الكتب الجغرافية والموسوعات والمعاجم والأدلة والخرائط ، والكتب المصورة التي تتضمن اللوحات الفنية لهذا الرسام أو ذاك، أو فترة تأريخية معينة لبلد ما، مثل بلاد الرافدين أو مصر القديمة، تلك الأوراق التي تنكرت على شكل كتب. واذا استثنينا هذه الكتب لن يبقى سوى نصف عدد الكتب الصالحة للقراءة والتي تتألف من كتب الآداب، والفنون، والفلسفة. ولم يتسنَّ لي قراءة القسم الأكبرمنها، بسبب طريقتي الخاصة في القراءة .
– انا لا افهمك . ثم التفتت الى زوجها وسألته: هل فهمت شيئا يا فيكتور.
– سيدتي لا تتسرعي في الحكم، دعيني اشرح لك طريقتي في القراءة . الكتب لا حصر لها، ومشاغل الحياة ومتاعبها كثيرة، وحتى لو تفرغ المرء طوال حياته الواعية للقراءة، فلن يستطيع أن يقرأ ويهضم سوى النزر اليسير مما هو منشور ومتاح من الكتب الجادة. إن القراءة التي أقصدها ليست هي مجرد الاطلاع السطحي، بل القراءة العميقة. إنني أقرأ بتمعن وتركيز مجموعة مختارة من الكتب، الأكثر تحريكا للمشاعر، تلك التي صمدت امام الزمن وظلت مقروءة عبر العصور منذ وجدت الكتابة وحتى يومنا هذا، واعيد قراءتها مثنى وثلاث ورباع ، باقبال متزايد ، واكتشف فيها الجديد في كل مرة ، حتى يصبح ما أقرأه جزءا من نفسي . وهذا الأسلوب لا يسمح بقراءة الكثير من الكتب ، لأن من المتعذر الجمع بين القراءة العميقة والقراءة الكثيرة الواسعة”..
لو قرأنا عددا محدودا من الكتب بهذه الطريقة أصبح من العسير علينا أن نطلع – الى جانب ذلك – على هذا الكم الهائل من النتاج الفكري والأدبي الذي تضخه المطابع ليل نهار. هذا الفيض الذي يزعم بعض المثقفين انهم قرأوه وتعمقوه. انا لا اشتت قراءاتي، لذا فإن كل ما أقرأ يصبح ملكا لي واستخدمه في سهولة ويسر كلما دعت الحاجة اليه .
كان فيكتور يستمع الى حوارنا، أنا وكريستينا، ولم يتدخل كثيراً في النقاش. ولكن يبدو انه كان يرى الأمر من زاوية جديدة. وقال بصوت حاول ان يكون وديا ولبقاً: إن وتيرة الحياة المعاصرة تتسم بالسرعة، والوقت لا يسمح باستيعاب المطولات والمجلدات. ولا افهم كيف يمكن للمرء أن يقضي أياماً عديدة وربما أسابيع في قراءة رواية طويلة من عدة أجزاء، مثل “الحرب والسلام” في حين ان الحياة من حولنا لا تقل متعة.
قلت: أعتقد ان الحياة ينبغي أن تكون مملوءة بالكتب النابضة بالحياة، تلك التي تخفف من وطأة الحياة وتسرع في ادراكها ولا تكون بديلاً عتها، فالكتاب للحياة وليس العكس. إن الكتب لا تغني عن تجارب الحياة ، لأننا نحتاج الى قسط من التجربة لكي نفهم الكتب حق الفهم. كما أن التجارب لا تغني عن الكتب ، لأن الكتب هي خلاصة مركزة لتجارب البشرية خلال آلاف السنين، ولا يمكن ان تبلغ تجربة الفرد الواحد اكثر من عدة عقود..
ان القراءة الواعية العميقة، أو القراءة الفاعلة تكون في الوحدة والسكون. ربما قرأتما رأي مارسيل بروست في اسلوب القراءة ، حيث يرى: “إن الكتاب أفضل من الصديق وأنفع من حديث الحكماء، ذلك لأن السكون الذي يحيط بنا عند القراءة يحفظ علينا تفكيرنا قويا سليما بعيدا عن مؤثرات المتحدث، فالسكون اذن ضروري لكل ما يثير فينا الفتنة والتفكير والاعجاب، كما أن اللوح الفني لا نستطيع ادراك اسراره الا اذا تأملناه منفردين”. القراءة العجلى لا تترك أثراً في النفس، ولا تلتصق بالذهن لفترة طويلة، ولا تغير نظرتك للحياة، أما الطريقة الواعية المتأنية فهي الوسيلة المثلى للمعرفة والثقافة، لأنها تمتع النفوس وتغذي العقول وتحقق للإنسان انسانيته، وتطور تفكيره وتعبيره، وتزيد الحياة عمقاً.
كان فيكتور وكريستينا، يصغيان بانتباه الى الحجج التي أسوقها لتبرير العدد المحدود من الكتب التي قرأتها. ثم التفتت كريستينا نحوي وهي تقول: والآن دعني أستعير منك بعض الكتب ان سمحت.
– هل لي أن أقترح عليكِ بعض الكتب التي أحبها؟
– يسعدني ذلك!
– ما رأيك في رواية فلوبير “مدام بوفار ” التي أعتقد أنها أفضل رواية كلاسيكية فرنسية. ورواية ستندال “الأحمر والأسود” ورواية ارويل “1984” و” مائة عام من العزلة ” لماركيز ، وهي كلها مترجمة الى اللغة الروسية، ترجمات ممتازة ومتكافئة.
قالت: هذه كتب قرأتها مترجمة الى اللغة البولونية . ثم تقدمت من الرفوف محاولة قراءة العناوين. قلت:
إني انظم مكتبتي حسب الحقول (علوم ، آداب ، فنون ، فلسفة ، تأريخ ،… الخ ) بصرف النظر عن اللغة، واذا كنت تبحثين عن الروايات والقصص فعليك معاينة حقل الآداب .
– هل لديك رواية “المعلم ومارغريتا” لبولغاكوف؟
– أجل ولكنني قرأت الجزء الأول منها فقط، لأنها لم تعجبني كثيراً .
اختارت كريستينا رواية ” المعلم ومارغريتا ” و” المماشي الظليلة ” لبونين و “امرأة في الثلاثين” لبلزاك ، والمؤلفات الكاملة للشاعرة الروسية العظيمة (تسفيتاييفا ). وقالت إنها معجبة بتسفيتاييفا، أيما إعجاب، لأن قصائدها رائعة، وكل ما كتبته من شعر ونثر فني ومقالات ويوميات ورسائل لا نظير لها من حيث عمق الأفكار وروعة التصوير وصدق الأحاسيس وجمال الأسلوب.
– نِعمَ الاختيار سيدتي ، وأريد رأيك في “المعلم ومارغريتا” بعد قراءتها بطبيعة الحال، لأن الروس يعتقدون أنها أفضل رواية روسية في القرن العشرين، وأنها البداية الحقيقية لأدب (الواقعية السحرية). وأنا لا أصدق ذلك!