“الموت والرجاء المسيحي” في “أشدو… وأشتاق!”…

hikmat hnein

 حكمت حنين

(أديب- لبنان)

إذا كان المتنبي قد جعل “المجدَ في السيف والفتكة البكر”،

وقد اعتبر أنّ “خيرَ جليس في الأنام كتابُ”،

فإنّ ريمون شبلي قد اتخذ من القلم خير صديق أبدي. وقد اكتفى بهذه الصداقة التي لم ولن تتزعزع.

هذا ما أعلنه ضمن أربعة أبيات مثبتة على الغلاف الأخير، مستلّة من قصيدة مثبتة في آخر الديوان بعنوان “قلم”، إذ قال في شطرين منها:

      “بيني وبينكَ شوق دافئ أبدًا

      كنا يدًا بيدٍ، نبقى معًا أبدًا”

حمّل ريمون هذا القلم أشواقه وثورته وهدوءه وأحلامه وعواصفه وقلقه ورنين ذاته، وانتظاراته الخضراء، وبه جمع معظم وجدانيّاته التأمّلية التي دوّنها منذ العام 2000، وأصدرها في ديوان أطلق عليه عنوان “أشدو… وأشتاق!”.

يستوقفك، في هذا العنوان، علامتا وقف: علامة الحذف التي تفصل بين فعلين مضارعين أشدو وأشتاق، وعلامة التعجب التي تختِم العنوان.

علامة الحذف تمسكك لتتساءل وتتأمّل: لمن ولمَ يشدو ريمون؟ وعلامة التعجب ترسم في خاطرك دهشة وانتظارًا لتعرف إلى من ولمَ يشتاق؟ والفعلان المضارعان يفيدان حالات مستمرّة بين الحاضر والآتي، تؤكد أبدية العلاقة بين ريمون وقلمه وشدوه واشتياقه. ويستوقفك من جديد حرف الشين المكرّر في “أشدو وأشتاق” لكأنّه يسحب من أعماق صاحبه نشيجه الصامت ليسكبه قصائد وجدانية تأملية معبّرة خير تعبير عمّا يريده الشاعر.

وإذا حاولت الإجابة عن الأسئلة السابقة، وأن تتأكد من صوابية التأويل للعنوان، ما عليك إلا أن تركب زورقًا وتبحر في يم قصائد الديوان، لتغوص من ثمة على ما فيها من تأمل ووجدان ومعاناة كابدها الشاعر في مناسبات متعددة ومختلفة ومتباعدة، على مدى تجرِبته الشعرية.

ونظرًا لتعدّد المناسبات والموضوعات التي تطالعك في الديوان، ونظرًا لضيق الوقت المتاح لي لعرض مداخلتي، اخترت أن أتوقف عند قضية واحدة لفتتني كثيرًا في الديوان، وهي “الموت والرجاء المسيحي” عند ريمون شبلي في هذا الديوان.

ولكن، قبل الشروع في عرض هذه القضية، اسمحوا لي بأن أتوقف عند بادرة اتّخذها ريمون، وهي، ضمن ما طالعت، جديدةٌ عليّ، فودِدت أن ألفت النظر إليها. لأوّل مرّة أقرأ أن أديبًا حَفِظَ حقوق النشر لولديه، فكأنه – سلمت روحه – يورّثهما باكرًا إرثًا فكريًا معنويًا لا تقدّر قيمته بثروة مادية.

raymond-chebli-1

الشاعر ريمون شبلي

والآن نعود إلى قضية “الموت والرجاء المسيحي”.

قصائد ريمون هذه عبارة عن مجموعة تمتدّ بين العامين 2000 و2016، وهي وقِفاتٌ عند محطات ومناسبات معيّنة، ينطلق منها ريمون إلى استعراض حالات وأوضاع عامّة، يسجّل موقفًا له منها.

أبرز محطة لفتتني توقّف عندها ريمون هي قضية الموت. وقد توقّف عندها كثيرًا، وفي مناسبات عديدة، تبدأ بالتأمل انطلاقًا من موت الوالد، مرورًا بالتفجع الفرح على الزوجة، انتهاءً بتأبين بعض الأصدقاء والزملاء والزميلات والمقرّبين.

ذكرى الأب تحتلّ مِساحة واسعة في ديوان ريمون، فأبوه، وإن غاب، يبقى اليد التي تدافع، والشعاع الذي ينير الدرب، والشراع الذي يوجّه إلى المرافئ الآمنة. يبقى القلب والساعد والحب والحارس والجدار في وجه الرياح، والطيب للجراح (ص 25).

وربّ متسائل: كيف يبقى الأب كلّ هذا وقد مضى على رحيله ما يزيد على ربع قرن؟ الجواب في ما زرعه ورسّخه هذا الأب الراحل في شخصيّة ولده ريمون من مزايا وشمائل كريمة.

موت والده قاده إلى التعبير عن ألمه وصدمته من الواقع المرير الذي يتخبط به لبنان واللبنانيون. فبعد عشرين سنة، مرّت على رحيل والده، تراكم القلق والوجع والتعب ونَزْفُ الجراح، وعظمت الأحزان، وهي مستمرة، بل إنها تزداد اتساعًا وعمقًا ونزفًا، فيما كان ريمون يأمل أن تسير الأمور نحو الأحسن.

أمام هذه الصدمة، لم ييأس ريمون، بل ظلّ يأمل ويتساءل:

      “مضت عشرون..

      لماذا

      لم يبرعمْ بعدُ غصْنٌ

      لم يفتِّحْ بعدُ وردٌ

      لم يُضئ نجمٌ ولا قَمَرُ؟”

ريمون ابن الرجاء المسيحي يزرع رجاءه في كلامه، فالأفعال المضارعة “يبرعم، يفتّح، يضئ” كلّها تفاؤليّة. وترقّب الأفضل توحيه “بعد” المكرّرة ثلاث مرّات. وأشياء الطبيعة “غصنٌ، وردٌ، قمر” كلها توحي بالأمل المنتظر.

ويزداد الأمل حدّة عند ريمون حين يرى أنّ أشياءَ طبيعية أخرى ما تزال تفيض بالخير:

      “لماذا

      وهي ما زالتْ

      تقطرُ ماءها الأغصانُ والشجرُ؟”

عنصر الحياة، الماء، متوافر، وهو ما يزال وفيرًا ومعطاءً، فلم لا تتجدّد الحياة في نفوس أبنائها، ولا سيما اللبنانيين.

ومهما مرّ الزمن وتفاقمت الأزمات، لا يستسلم ريمون ولا ييأس:

      “مضت عشرون

      متى يتقهقرُ التّنينُ

      ويندثرُ؟

      متى يشتاقُ وجهَ ربيعِه الزمنُ؟”

إنّه توقّعٌ وانتظارٌ لربيعٍ آتٍ يلُفّ الزمان ويعُمّ المكان، وأملٌ وتفاؤلٌ بدحرجة الحجر عن قبر لبنان، وعن صدور اللبنانيين، فيشهدُ ويشهدون قيامةً وصعودًا وخلاصًا من الفساد والفاسدين والمفسدين، وقد طالت وعمّت الشكوى منه ومنهم.

guilaf raymond chebli

ويتجلّى الرجاء المسيحي في شعر ريمون في قصيدته لزوجته التي عانت المرض والآلام المبرّحة، وقد شاركها ريمون آلامها لحظة بلحظة. في هذه القصيدة “إفرحي في رحلة الأبد”، يبرز الرجاء المسيحي المتجذّر في نفس ريمون بقوله في عنوان القصيدة “إفرحي”، فيما الرحيل أبدي. إنّه تعبير عن ترسّخ المسيحية في نفوس المتعبدين المؤمنين بأن الفرح، مهما بلغ في هذه الدنيا، فهو لا يساوي الفرح المنتظر في أحضان الرب. كيف لا وموت الزوجة خلاص لها من عذاب لا ينتهي مع مرض يتفاقم. إنّه يفرح لها لأنّها سترتاح من عذابها في أحضان الرب حيث لا وجع ولا ألم ولا بكاء. في هذه القصيدة يطغى حقل الفرح بعبارات كثيرة منها: “نور المسيح”، “دفء الرجاء”، “لك الصلاة”، “العالَم العُلْوي”، “نغنّي نغمة الخلد” (ص 37).

وتترسخ عقيدة الرجاء المسيحية في شعر ريمون من خلال قصيدة “جبروت القلق” ص 46، فهو ينتصر على معاناة القلق بأن يواجهها بالصلاة والأمل الكفيلين بتحقيق الانتصار عليها.

ويواجه لحظة الموت الصفراء التي يترقّبها، ولا يبدو أنه يخشاها، ببصيرته التي ترى الصمت الذي يعقبها صلاة وخشوعًا، والنورَ نورًا يضوع، وراحةً بين يدي الخالق وأحضانه، فيطمئن ريمون ويرى أنه قام برحلة طاب فيها السفر (ص 50).

وبعد تأبين مجموعة من الأصدقاء والزملاء والزميلات والمقرّبين، لا يعفو ريمون عن نفسه، فيردف، مباشرة بعد قصيدة التفجّع على الزوجة ص 37، قصيدة “كَمَن” ص 39، وفيها استعراض موجز لسيرته واستشراف لعودته إلى خالقه حيث السعادة والغبطة والطُمأنينة والراحة الكبرى والمكافأة في حضن الآب الرحيم، إلى جانب الزوجة نورما.

ولا يأبه ريمون للموت ولا يخافه، كيف يفعل وهو مرتاح لتخليده وواثق من ذلك عبر ما تركه من محبّرات، تؤكد إيمانه بخلود النفس وفناء الجسد بعد الموت. الجسم يفنى أما ما سطّره القلم، صديق ريمون الأبدي، فخالد مخلِّدٌ.

ختامًا، نحمَد الله أن أخانا ريمون، المؤمن بالرجاء المسيحي إزاء حتمية الموت، أنقذ نفسه من تطير ابن الرومي وهلوسة ابراهيم بن خفاجه في آخر أيامه.

أخي ريمون سَلِمْتَ مع عقلك وصفائك ووفائك ويراعك. ألا جد علينا بالمزيد من أدبك الرفيع. وشكرًا.

*****

(*) ألقيت في الندوة حول ديوان “أشدو… وأشتاق!” للشاعر ريمون شبلي في الحركة الثقافية- أنطلياس 

vector raymond

One comment

  1. يقول فريدة صعب:

    كلام سطحي، وقد حجّم الكاتب آفاق القصيدة الرحبة ليلبسها في أيديولوجية الثالوث التي لم تعد تصمد أمام تساؤلات العقل الراجح والحكمة الأصيلة. القصيدة متقنة وأبعادها المحسوسة بعيدة عما تصوره الكاتب.

اترك رد