بين الحُبّ والمحبّة!
إيلي مارون خليل
(أديب وشاعر- لبنان)
في اليوم التّالي، سألتُ أبي:
– أليس من وصيّة في هذا النّهار؟
– ألديك الوقتُ للاستماع والاستيعاب؟
– لديّ الوقتُ كلُّه، وإنّي لَفي شَغَفٍ!
– إذًا، فاسْمعْ، وأجِبْ: برأيِك، ما أهمّ الوصايا الّتي يُمكِنُ أن أنقلَها إليك؟
– ألمحبّة! هي الوصيّةُ الأهمّ!
– والحُبّ!؟
– أليسا الأمر نفسه؟
– لا، يا بني! إنّا نجدُ فَوارِقَ بيّنةً بينهما.
– ألا يقود الحبُّ إلى المحبّة؟
– لم ليست المحبّةُ هي المُفْضِية إلى الحُبّ!؟
– أوضِحْ لي!
– ألمحبّةُ، من حيث المبدأ، أكثرُ شُموليّةً. هي لا تتّجه إلى إنسانٍ بعينِه. إنّما هي تشمل النّاسَ كلَّهم. ألمحبّة هي أن تُحِبَّ النّاسَ جميعا، من دون استثناءِ أحَد! وبالمقدار نفسِه. فتبقى على مسافة واحدةٍ من الجميع. أي أنّها تُبقيك على المسافة نفسِها.
– وهل هذا مممكنٌ!؟
– لمَ لا!؟
– إنّ الأمرَ لَمُغرِقٌ في المِثاليّة!
– والإنسان ليكون مثاليًّا!
حِرتُ. إنّه لمستحيلٌ أن نُحِبَّ النّاسَ جميعًا، من غير استثناء، وبالمقدار نفسِه!
إستراح لُحَيظاتٍ، ناظرًا في عينيّ، مستخلِصًا منهما الفِكَرَ والعِبَر، ثمّ أكمل: _ ألمحبّة قادرةٌ ألّا تُبقي أحدًا خارج قلبِك. ألّا تُقصي واحدًا بعيدًا منك. ألّا تنفي واحدًا خارجَ رعايةِ عطفِك وحنانِك. ألّا تُخرِجَ واحدا من مدار قلبِك، ولا مداه. أن يكون الجميع، ومن دون استثناء، في عالم قلبِك وفكرِك. ألّا يكون واحدٌ خارج اهتمامِك. هذا كلُّه، بُنَيّ، ومن دون تمييز، أيّ تمييز ممكِن، مهما كان بسيطًا. – أليس الأمر مستحيلًا!؟ – لا مستحيل عند أصحابِ الإرادةِ الحقيقيّة. فكّر في أنّ أيّ تلميذٍ هو ابنُك، أو بنتُك. فأنت، حين تتزوّج وتُنجِب، لن تميّز بين أولادِك، وإلّا فأنت غادرٌ بأحدهم. ولن تكون! – والحُبّ!؟
– أن تُخلي قلبَك إلّا من إنسان واحد وحيد أحد! فتُفيض عليه عواطفَك وأحاسيسَك ووِجدانَك من دون حساب! وإن أنتَ أشركتَ واحدًا مع من تُحِبّ، سقطتَ في الخيانة! – لذلك فالمحبّة للتّلامذة والنّاس، والحُبّ لأنثى أختارُها!
– أُنثى واحدة تختارها تجعلُها فريدةً بين النّساء!
وفهمتُ من والدي، الخوري مارون، من دون أن يتكلّم، كيف أنّه عاش الحُبَّ والمحبّة! وما كان والدي لِيُكثِرَ من الكلام. كان رجل أعمالٍ. لا يعظُ، لا يقدّم إرشاداتٍ، أو نَصائحَ، أو توجيهات، أو… بالكلام المُباشر، الواضح، الصّريح. فقد كان يُردّد: “إنّ الكلام الأكثر أهمّيّةً، الأرقى فَصاحةً، الأشدّ بَلاغةً، الأبعد صُوَرا، الأمتن سَبْكًا،… هو الصّادرُ عن طريق حياتِك بين النّاس، طريقةِ مَسْراك بينهم، فيتمثّلون بك، يتّخذونك مِثالًا، لهم، راقيًا، أخلاقيًّا، وحَضاريًّا، وفنّيًّا، وإنسانيًّا، ودينيًّا، واجتماعيًّا، وعلى كلِّ صَعيد. يُضيف، مرّاتٍ: ألحياةُ أكثرُ أهمّيّةً من الكلام، من أيّ كلام!
وفهمتُ، بعدُ، من أبي، الخوري مارون، أنّ الحكي لا يفيد. لا يوحي. لا يؤثّر. ما يُثمِرُ، في بال النّاس، وأفكارِهم، وأذهانهم، والقلوب… ويُفيد ويوحي ويؤثّرُ… هو طريقة الحياة!
كم أنتَ خارقٌ ورائعٌ، يا أبي!
(ألثّلاثاء 16- 2- 2016)