كلود أبو شقرا
تحتضن مدينة طرابلس، عاصمة محافظة لبنان الشمالي، مواقع أثرية، ساحات وأزقة، خانات وحمامات، أسواقاً وأبنية، تشهد لتاريخ هذه المدينة العابق بالأصالة، مع ذلك يبقى مجهولاً سواء لأبناء طرابلس أو للبنانيين عموماً، لذا أخذت {جمعية الحفاظ على تراث طرابلس} على عاتقها مهمة إخراج عراقة هذه المدينة إلى النور، من خلال تنظيم ندوات ومحاضرات وأنشطة مختلفة، آخرها افتتاح المبنى التاريخي لخان العسكر بعد الانتهاء من ترميمه برعاية وزارات ثلاث: التربية والسياحة والثقافة.
اندرج الاحتفال بافتتاح المبنى التاريخي لخان العسكر في طرابلس اللبنانية ضمن فعاليات {تراثي تراثك} الذي تنظمه {جمعية الحفاظ على تراث طرابلس}، تخللته كلمات لرئيسة الجمعية الدكتورة جمانة شهال تدمري ومديرة المشروع التربوي ندى شهال، إضافة إلى كلمات للوزارات الراعية، وأخرى لإيناس أبوعياش التي ساهمت في المشروع، وفي المناسبة عرض الشريط الوثائقي {طرابلس كوسموبوليس} وقدم الطلاب عروضاً فنيةً.
لمحة تاريخية
خان العسكر، أحد أكبر الخانات في طرابلس، بناه المماليك في مطلع القرن الثالث عشر واستعملوه ثكنة عسكرية، ما يفسّر اسمه خان العسكر. يتميّز ببناء مستطيل تتوسطه بركة ماء، ويتألف من مبنيين متطابقين ملتصقين، بهدف الحصول على أكبر عدد ممكن من الغرف للسكن وتخزين المؤن. خصصت الطبقة الأرضية للدواب وعلفها، والطبقة الأولى (60 غرفة) للتجار الوافدين من شمالي لبنان والمناطق السورية. يتصل المبنيان ببعضهما البعض بممر مقبب على نطاق ضيق.
بحسب المؤرخ د. عمر تدمري، تحمل الواجهة الشرقية للخان ملامح الحضارة المملوكية التي كانت سائدة في القرن الثالث عشر، في حين يعود جزء من الواجهة الغربية إلى فن الحضارة العثمانية في القرن التاسع عشر.
أطلقت على هذا الخان الكائن في محلة الدباغة في طرابلس، تسميات عدة وفق أنواع الحرف أو المهمات العسكرية التي جرت داخله. فسمّي خان الحرير مثلا، نسبة إلى حرفة صناعة الحرير من دود القز، وخان الأسرى بعد تحويله سجنا في العهد العثماني، إلا أن تسمية خان العسكر كانت الأقرب إليه منذ بضعة قرون.
بقي الخان مهجوراً، إلا من بعض عابري سبيل يأوون إليه، فيما خصصت الطبقة الأرضية للمستودعات والحرف اليدوية مثل تقشيش الكراسي، صناعة المساند، جلخ السكاكين، صناعة الأحذية والمفروشات، ومستودعات لبيع الأدوات المنزلية.
استقبلت غرف الخان في الطبقة الأولى عشرات العائلات الوافدة من فلسطين عام 1948 قبل إنشاء مخيم لهم في جوار نهر البارد، وفي عام 1955 استقبلت عائلات هدمت منازلها إثر فيضان نهر أبو علي قبل أن تبنى لهم منازل في منطقة قرب البداوي أطلق عليها اسم {المنكوبين}.
تحتضن طرابلس حوالى 40 خاناً تقريباً تحول معظمها أماكن سكنية وتجمعات مهنية وتجارية، من بينها: خان البطيخ، خان الزيت، خان الحمير، خان الشاويش، خان الصباغين، خان الخياطين، خان الصابون وغيرها… للأسف هدم بعضها أثناء حروب داخلية وخارجية تعاقبت على طرابلس.
جمعية الحفاظ على تراث طرابلس
تأسست جمعية الحفاظ على تراث طرابلس في باريس عام 2009، غايتها حماية تراث المدينة، فباشرت بحملة {تراثي تراثك} في طرابلس، ضمن برنامج شمل أربع مدارس لتعريف الطلاب إلى المعالم التراثية في مدينتهم، بالتعاون مع الجمعية الفرنسية {تراث بلا حدود} وبدعم من وزارة التربية اللبنانية.
تنظم الجمعية ندوات وورش عمل حول طرابلس، بشكل دوري، بهدف صيانة تراث طرابلس وحمايته وإبقائه حياً في الأذهان، وفي هذا الإطار عقدت مؤتمر {طرابلس صرخة إنذار} في باريس، وتضمن في توصياته تعزيز معرفة أبناء المدينة بمفهوم التراث والحفاظ عليه، ووضع قوائم بالمواقع التاريخية والمراكز الدينية، والإحاطة بمشاريع ترميمها باعتبارها ثروة تاريخية وحضارية يجب أن يعاد الاعتبار إليها.
من أبرز أهداف الجمعية، أيضاً، حماية المنازل التراثية المهددة بالزوال. فطرابلس مدينة تمتاز بعبق التاريخ بقلعتها وأبراجها وقصورها ومعارضها ومساجدها وكنائسها وخاناتها ومدارسها وحماماتها وأسواقها ومينائها وكتاباتها ونقوشها…
تضع الجمعية نصب عينيها الأجيال الشابة، لذا تركز في أنشطتها كافة على ربط الجيل الجديد بوطنه وتعريفه بتاريخه الأصيل ومكانته الحضارية ومدنه التراثية. تضم الجمعية مجموعة من أبناء المدينة المتخصصين بتراثها والمتعمقين بهويتها وخصائصها الحضارية، المنتشرين في عالم الاغتراب، فيمثلون الوجه الإيجابي للهجرة اللبنانية التي تظهر صورة جمالية وحضارية امتازت بها طرابلس على مر العصور، فضلاً عن مكانتها الاستراتيجية ودورها الاقتصادي على الصعيد الوطني واستمرارية ألقها التاريخي والحضاري.
*****
(*) جريدة الجريدة الكويتية.