خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
منذ هجمات أيلول / سبتمبر عام 2001 في الولايات المتحدة الأميركيَّة، دخلت قضيَّة الإرهاب في انعطافة جديدة جعلت المجتمعات الغربيّة وأنظمتها أمام هاجس كيفيَّة مواجهة هذا القادم عليهم من الرُّعب. على امتداد قرن ونصف استولد الإرهاب أيديولوجيا جديدة فرضت نفسها في أكثر من مكان في العالم، تقوم على مفاصل رئيسيَّة وفق مايراه كلّ نظام يريد توظيفه بما يخدم أهدافه السياسيَّة.
فالولايات المتحدة الأميركيّة وجدت أنَّ الحجم الواسع من الدّيمقراطيَّة المعطاة داخليًّا كان أحد أسباب الإختراق الإرهابي، ممَّا يستدعي الحدّ من هذه القيم في سبيل حماية الوطن. خارجيًّا، تفتقت نظريّة محاربة الإرهاب أميركيًّا عن نظريَّة الحروب المسبقة حيث ترى الدَّولة من حقّها ضرب ما تراه خطرًا على أمنها خارج حدودها، وبذلك خرجت الإدارة الأميركيَّة بمقولة “محور الشَّر” الَّذي جرى تصنيف العراق وإيران وأفغانستان من مكوّناته، ممَّا أعطى الولايات المتحدة لنفسها شرعيّة احتلال أفغانستان والعراق وتدمير بناهما. كما أعطت الولايات المتحدة لنفسها الحقّ في التَّدخل في أي مكان في العالم متجاوزة المواثيق الدوليَّة والقانون العام المنصوص عليه في الأمم المتحدة بعدم التَّدخل في شؤون الدُّول.
في أوروبا، حيث كان للإرهاب نصيبه في عمليات هزَّت بعض المجتمعات في فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، فردَّت هذه الدول داخليًّا بالحد أيضا من الحريّات المعطاة لشعوبها على مستويات متعدّدة، بوصف هذا التَّضييق شرطًا لحفظ الأمن والحدّ من الهجمات اللاَّحقة. في المقابل، انبعثت نظريات عنصريَّة داخل هذه المجتمعات ركَّزت تحريضها ضدَّ المهاجرين الآتين من الدُّول العربيَّة، واعتبرتهم الخزَّان المولّد للإرهاب في بلدانهم، ولم يخل التَّحريض من دعوات لطرد هؤلاء المهاجرين وإقفال الحدود في وجههم. وقد ازدادت هذه الحملة خلال هذا العام بعد هجمات باريس الدَّمويَّة. لكنَّ الأخطر يكمن في تنسيب الإرهاب إلى الإسلام والمسلمين وبالجملة بعيدًا عن أيّ تحديد وتفسير لطبيعة التَّنظيمات الإرهابيَّة الَّتي تعمل تحت اسم الإسلام، من دون أن تكون لها أي صلة بالدّين وقيمه ومبادئه.
ليس من شكّ أنَّ الإرهاب المتمدّد في نشاطه إلى أكثر من مكان في العالم يترك، موضوعيًّا، انعكاسات سلبيّة على أبناء هذه المجتمعات، وله آثار نفسيّة، من الطَّبيعي أن تخلق جوًّا من الحذر من تنظيمات أصوليّة تتجلبب بإيدولوجيا ذات طابع دينيّ. لكن ما يستوجب التَّدقيق يتَّصل بكيفيَّة استثمار أنظمة الحكم القائمة في الغرب للإرهاب للهروب من مواجهة المعضلات الدَّاخليَّة والأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة الَّتي تعاني منها هذه المجتمعات، بل تحميل هذه الفزَّاعة مسؤوليّة الأزمات الدَّاخليَّة لهذه الدُّول.
لا ينكر أيُّ مراقب أنَّ الأوضاع الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في بلاد الغرب، كما غيرها من البلدان النَّامية، تعاني مآزق السّياسات الَّتي تمارسها هذه الأنظمة وما تتسبَّب به من تفاوت اجتماعيّ، وازدياد نسبة البطالة، وارتفاع عدد الفقراء إلى أرقام قياسيَّة مقابل ازدياد عدد الأغنياء الَّذين يحتكرون الثَّروة في كلّ بلد. لم تخل هذه البلدان خلال العقود الأخيرة من حراك شعبيّ تناول المسائل الاقتصاديّة والاجتماعيّة وقضايا البيئة، عبر عن نفسه بإضرابات عماليّة وتظاهرات في الشَّارع، كانت الطَّبقات الحاكمة ترى فيها مؤشّرات خطرة على النّظام الرَّأسمالي القائم في كلّ بلد. لم يكن سهلا على الحكومات اللّجوء إلى العنف في مواجهة هذا الحراك بالنَّظر إلى الحريَّات والحقوق الَّتي تضمنها الدّيمقراطيَّة في الحقّ في التَّعبير بأشكاله المتنوعة الَّتي يملكها كلّ مواطن، وكلّ حزب سياسي. لذا ليس من قبيل المبالغة الاشتباه بأنَّ الحكومات في أميركا وأوروبا وجدت في هذا الإرهاب مبرّرًا للانقضاض، بقدر ما تستطيع، على الحريّات الَّتي ناضلت الشُّعوب الغربيّة طويلاً للحصول عليها. في مثل هذه الحالات، وتحت وطأة الخوف من الإرهاب، يرضخ المواطن إلى منطق الحدّ من حريته مقابل تقديم الأمن والاستقرار والبقاء على قيد الحياة.
إذا كان الإنبعاث العنصريّ في الغرب يتوجّه ضدَّ المهاجرين العرب ويرى فيهم مصدرًا للإرهاب، فإنّ هذه المسألة تستحقُّ نقاشًا في ما هو صحيح وما هو مزيف. لا ينكر سياسي في الغرب أنّ المهاجرين الَّذين وفدوا إلى عدد من البلدان الأوروبيّة من المغرب العربيّ وبعض الدُّول العربيّة الأخرى، يعيشون تناقضًا في علاقتهم بالمجتمع القادمين إليه، لجهة الصعوبة في الاندماج الاجتماعي والتَّكيُّف مع قوانين البلد وثقافته المختلفة بقسم كبير منها عن الموروث الثَّقافيّ والتَّقاليد الَّتي يحملها هؤلاء المهاجرون. لم تكن هذه المشكلة بعيدة عن سياسيين متنوّرين دعوا إلى وضع سياسات اقتصاديّة واجتماعيّة وثقافيّة تساعد في تحقيق الحدّ الأدنى من اندماج المهاجرين في مجتمعاتهم الجديدة. ظلَّت هذه السّياسات قاصرة عن تلبية الحدّ المطلوب في هذا المجال. لكنَّ الثّابت في التَّعاطي مع المهاجرين وفتح أبواب الهجرة لدخولهم كان اعتبار السُّلطات الحاكمة أنّ هؤلاء المهاجرين يشكّلون اليد العاملة الَّتي تقوم بالأعمال “القذرة” والَّتي ينأى المواطن الأوروبيُّ عن القيام بها. وأنَّ هؤلاء المهاجرين ينفّذون مهماتهم من دون كلفة عالية سيطلبها المواطن الأوروبيّ للقيام بأعمال التَّنظيفات والمجارير وغيرها.. إذا كانت بعض التَّنظيمات العنصريَّة الصَّاعدة لا ترى في المهاجرين سوى الجانب السَّلبي، فإنَّ الطَّبقات الحاكمة تدرك أنَّ هؤلاء هم اليد العاملة الَّتي يستحيل الاستغناء عنها للقيام بمهمَّات يأنف الأوروبيُّ من القيام بها. لذا تبدو السّياسات متخبّطة في النَّهج الَّذي ستتَّبعه الحكومات في كيفيَّة التَّعاطي مع المهاجرين أنفسهم ومع التَّنظيمات والحركات السّياسيّة المعادية لهم. ما هو مؤكّد أنَّ التَّشديد في الحدّ من الحقوق الإنسانيَّة سترتدُّ سلبًا على هذه الفئات الوافدة إلى أوروبا.
ليس من شكّ أنَّ الإرهاب الأصوليَّ المندفع بقوَّة في أكثر من مكان يعبّر عن انفجار بنى ومجتمعات استعصت على الحداثة والقيم الإنسانيّة. إذا كانت المجتمعات العربيّة والإسلاميَّة المسؤول الأوَّل عن هذا الانهيار في البنى، فإنّ دول الغرب تتحمَّل قسطا غير قليل من المسؤوليَّة في هذا المجال عبر السّياسات الاستعماريَّة ونهب الثَّروات والمساهمة في حماية أنظمة الاستبداد وخلق دولة إسرائيل.. وغيرها من العناصر الَّتي ساهمت دول الغرب في خلق التَّنظيمات الإرهابيَّة وازدياد فاعليتها.
إذا كانت مجتمعاتنا تقف أمام تحدّي مواجهة الإرهاب بالعنف وغير العنف، إلاَّ أنَّ الدُّول الغربيّة تواجه تحدّي الحفاظ على قيمها الدّيمقراطيَّة وهي تتصدَّى لهذا الإرهاب. في الحالتين، يحتاج هذا التَّصدي إلى سياسات اقتصاديّة واجتماعيَّة وثقافيَّة أكثر من استخدام العنف الماديّ. إنَّه تحدٍّ بات يواجه العالم بأجمعه ويحتاج إلى فكر تنويريّ وفق منطق العصر الحديث وموجبات قضاياه.