الأب كميل مبارك
أَطلَّ أَيَّار أَو نوَّار كما كان يَحْلو لأَجدادِنا أَنْ يُسمُّوه حاملًا معه عبيرَ الأزهار وأَلْوانَ الفرح ، كيف لا وهو، عدا عن سِماتِه الطبيعيَّة العابِقَة بالأَمل والتجدُّد والشَّباب، شهرٌ قد خصَّصَت الكنيسةُ أيَّامه كاملة لأُمِّنا العذراء، صِبا الكنيسة ووَجْهُها المَمْلوء بالأَمل والرجاء، وإنْ شابَهُ بعضُ الأَلم والحزن، أَيَّامَ عَمَّ الكُفْرُ قلوبَ النَّاس فصاحوا اصلبوه اصلبوه، وعُلِّقَ الحبُّ بلا رحمةٍ على الصَّليب في حين أَنَّه جاءَ رحمةً للنَّاس وتحقيقًا لوَعْدِ الله لآدمَ وحوَّاءَ بالخلاص.
في هذا الشَّهر المبارك الذي يعيشه المؤْمنون مع مريم أُمِّهِم ، يحملونها من بيت إلى بيت ويباركون بنظراتها وصلواتهم أَحياءَ قراهم ومُدُنهم، ويَمْسَحون من عطْر يدَيْها الضَّارعتَيْن جِباهَ بَنيهِم وبناتهم تبرُّكًا وطلَبًا لشفاعة.
أَمام هذا المشهد المُزْدان بالإيمان، أَرى مريمَ تنظر إلى المصلِّين غامرةً إيَّاهم بحنانٍ ما بَعْدَه حنانٌ، وتردَّد على مسامِعِهِم كلمتها في عرس قانا «إفعلوا ما يأْمركم به» وكأَنَّها تأْبَى إلَّا أَنْ يكتملَ العرسُ بالبَهْجَةِ والفرح.
«إفعلوا ما يأْمركم به» كلمةٌ تردَّدَتْ على مَسْمَعي ومَسْمَعِ الكثيرين من النَّاس، مِنْهُم مَن استعذَبَ الصَّوْتَ والكلامَ وفعلَ بموجَبِه، ومنهم من قال إنَّه صَوْتُ الرَّغَد، واستمرُّوا في غَيِّهم وتيهِهِم وتيهانِهم، وكأَنَّهم يرفضون في قرارة كَيانِهِم أَنْ يفعلوا بحَسَبِ كلامِ المعلِّم السَّماويِّ غافلينَ عن أَنَّه لنْ يطلبَ إلَّا ما يفرِحُ قلوبَهم ويحوِّل عَكِرَ مائِهم إلى خَمْرٍ زلال، بها يكتمل عرسُهم وتدوم أَفراحهم.
تُرى لَوْ فَعَلَ النَّاسُ كلُّهم ما يأْمُرُ به المسيح، ماذا كنَّا نرى على وجه الأَرض؟ أفَلا تَنْتَهي الحروبُ والخصومات وينْتَفي الاقتِتال تاركًا أَزهارَ السَّلام تزيِّنُ أَعتابَ البيوت وساحاتِ المُدُن وباحاتِ القصور، عاكسةً ما في القلوب من التَّآخي ومَا في لَمعات العيون من رغبةٍ بالتَّلاقي، وما في إيماءَات الأَيْدي من أَفعالِ التَّضامُن بَيْن أَبناءِ البشر الَّذين جَعَلَهم إيمانُهم بالتجسُّدِ والفداءِ أَبناءَ لله؟ أَفَلا يفيضُ الخَيْرُ رِزْقًا طيِّبًا يملأُ الخَوابي قَمْحًا والجرارَ زَيْتًا، ويبتعدُ القلَقُ والخَوْفُ من المَجْهولِ الآتي من المستقبلات، عن قلوبِ النَّاسِ وعُقولِهِم، وتُهْدَمُ أهراءُ الاحتكار والادِّخار المُرافقِ للهمِّ والاضطراب، ليُبْنَى مكانها مخازنُ محفورةٌ على أَبوابها شجرة الحياة ومنْ على جانبِها تَنْبَعُ مياهٌ مَن يشربُ منها لا يعرفُ العَطَشَ أَبدًا؟
أَفَلا يعودُ الناسُ إلى جنَّةِ ما قبل الخطيئَةِ حيثُ الإنسانُ يرافقُ اللهَ حبًّا وحياة، عِوَضَ من أَنْ يَسْعى جاهدًا لإعادة بنْيانِ ما هدَمَتْه الخطيئة، فيَبْني بآلافِ السِّنين حضارات وثقافات، ثمَّ يهدمُ ما بَنَاه بساعات الحِقْد ومَوْت الإنسانيَّة فيه؟
أَفَلا أَفَلا أَفَلا، وكلُّها تساؤُلات يأْتي نوَّار بوَجْه الطَّبيعة الباسم، مَصْحوبًا بوَجْه الأَمل النَّابِع من نظرة مريم التي تُشعِرُ قلوبَ مَن أَرادوا أَنْ يشعروا، بفرحِ اللِّقاءِ اشْتِيَاقًا إلى الحضور البَهِيِّ الدَّائِم، حيث الشَّمس لا تغيب ولا تعرف العَتْمَةُ طريقًا إليْه، إنَّه النوَّار حقًّا، ومريم تُمْسِكُ بأَيْدينا لتحملَنا إليْه، إذا ما فعلْنا ما يأْمُرُنا به.