خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
لم يتوقف الانهيار البنيوي في لبنان منذ عقود نتيجة الحرب الأهلية المستمرة في أشكال متعددة، ويتجلى اليوم في تعطيل مؤسسات البلد من أعلى قممه إلى أدنى مؤسساته، كما يشهد تحولاً في القيم والمفاهيم نحو تشريع الفساد والنهب وإثارة الغرائز المذهبية والطائفية. إذا كانت الانتخابات، ومنها البلدية، تشكل استحقاقاً ديموقراطياً من حق المواطن اللبناني ممارسته، والتعبير من خلاله عن رأيه في من يمثله، فإن هذه الانتخابات أتت تكشف حجم الانهيار الذي أصاب بنى المجتمع اللبناني ونسيجه، والمدى الذي وصل إليه تخلف قواه السياسية والاجتماعية.
من المعروف أن البلديات تشكل عنصراً من عناصر الإنماء وتطوير المجتمع المحلي، وهي قانونياً لا يحكمها منطق المحاصصة الطائفية على غرار المجلس النيابي، وكانت الصراعات فيها، غالباً، تبتعد إلى حد كبير عن الصراعات السياسية على المستوى الفوقي. في العقود الأخيرة، ومع نظام المحاصصة والاستقطابات الحادة الطائفية والمذهبية، باتت البلديات أحد عناصر هيمنة هذه الكتل على المجتمع وفرض قوانينها عليه، وتوظيفها في مواقعها السياسية. هكذا نشهد اليوم انخراطاً للكتل السياسية والطوائفية في تحديد خيار المجتمع في وصفه خيارها، فتختزل التمثيل حيث يمكنها، وتؤجج النزاعات حيث تعجز عن الهيمنة، وتمارس التهديد ضد قوى معارضة لنفوذها، وتسعى إلى إلغاء الانتخابات حيث ترى أن موقعها مهدد أو غير مؤكد.
إذا كانت مواقف الكتل الطوائفية والسياسية غير مفاجئة، فإن الذي يدعو إلى التأمل هو الطريقة التي تدار فيها الانتخابات على مستوى قاع المجتمع. أول ما يغيب عنها هو الهدف من وجودها كوسيلة إنماء محلية ومساعدة في تسيير شؤون المواطنين. لم تعد مصالح المدينة أو البلدة عنوان الترشح، بل الالتحاق السياسي والمذهبي وجعله الأولوية في الولاء. وإذا كانت البلديات، تقليدياً، تغلب عليها الولاءات العائلية وصراعاتها ومصالحها، فإن حيزاً واسعاً من التفلت عن هذه القولبة كان قد برز لسنوات خلت، لتعود الاستقطابات الطائفية فتأسره. والمفارقة هنا أن العائلات كانت سابقاً تسعى لأن تقدم نخبها لتولي المسؤولية، فيما يغلب اليوم طابع تقديم نخب سيئة وغير كفوءة لتولي المنصب.
خلال العقود الماضية، تكونت في لبنان طبقة طفيلية من المتمولين الذين جمعوا أموالهم من تجارة المخدرات وتبييض الأموال والفساد المستشري في البلد، فباتوا شريحة اجتماعية لا يستهان بها في كل مدينة وقرية. هذه الفئة تسعى اليوم إلى تتويج سلطتها المادية بالاستيلاء على السلطة المحلية. من يتابع المعارك الانتخابية سيكتشف أن ملايين الدولارات تصرف من أجل السيطرة على مجلس بلدي مهما كان حجمه. يمكن تلمس هذه الظاهرة في كل المناطق اللبنانية ومن دون استثناء. في مجتمع لبناني تزداد فئاته الاجتماعية فقراً، فإن دخول عنصر المال في هذا الشكل المريع، وشراء الأصوات بمبالغ مرتفعة، يشكل أحد الحلول لمشكلات كثير من الناس.
بما أن كل قضية، صغيرة أكانت أم كبيرة، محلية أم وطنية، هي قضايا سياسية بامتياز، وفي بلد انمحت فيه المسافات بين السياسي وغير السياسي، فإن ثقافة يسودها منطق إثارة الغرائز وتأجيج الأحقاد والفتن الطائفية، هي الثقافة المهيمنة في الانتخابات، والتنافس يدور على هذا الصعيد وليس على الإنماء والتطوير. في هذا الجو، لا يصعب أن يرى المشاهد حجم الانقسام السياسي والمجتمعي المنحدر من دون قيود، وهو انحدار يعكس حال المجتمع اللبناني سياسياً واجتماعياً وثقافياً. لن تهدد الانتخابات البلدية سلطة القوى الطائفية المهيمنة كما كان يتخيل كثيرون، بل ستأتي لتكرس هذه السيطرة. وإذا كانت بعض الأماكن تحاول التفلت من هذه السيطرة، إلا أن حجمها يظل محدوداً، وإن كان هذا التفلت يشكل أحد النقاط المضيئة وسط ظلام مهيمن.
يبقى السؤال عن المجتمع المدني ومؤسساته والفئات المنضوية تحت خيمته. ليس مبالغة القول إن قسما واسعاً من هؤلاء عادوا إلى الانضمام «للقطيع». مما جعل فاعلية القوى غير الطائفية أو غير العصبية شبه معدومة القوى، وزادها ضعفاً بروز محدودية هذا المجتمع خلال عام من الحراك، لم تكن نتائجه مشجعة على صعيد توليد قوى بديلة. إذا كان من خلاصة لهذه الانتخابات، فهي أتت تكشف واقع المجتمع اللبناني وتجذر العلاقات الطائفية والفئوية في قواه، وتكريس الولاء للعصبيات الموروثة على حساب الولاء للوطن. إن منطق المواطنية ما زال يغرد بعيداً عن اللبنانيين، فالطائفة وزعيمها، والمذهب وأسياده والعائلة وعصبيتها، هي القيم المهيمنة على المجتمع اللبناني، وبصورة أكثر سوءاً وابتذالاً مما عرفه هذا المجتمع لعقود خلت.