د. أمين البرت الرّيحاني
رَسْمَةٌ أُولَى
ربما لم يُدرِكْ شوقي أبي شقرا باكرًا أنّ بعضَ الينابيعِ والسواقي في قرية رشميّا، ومحيطِها في الجبل، قد تحوّلت على أنامله إلى مادّة مُشِعَّة تتشكّلُ منها مفرداتُه وتعابيرُه، يجبُلُ بها لغةً مضيئة، نشأَتْ معَه فشبَّ معَها ليغسِلَها بِ “ماءٍ لحصانِ العائلة”.
ربما لم يعِ شوقي باكرًا أنّ الطفولةَ تكادُ تُختصر بصورة الوالد الذي رحَل، صورةِ الأبوّة الضائعة التي تشدُّه حنينًا قاتلًا إلى الأرض اليباب كما إلى خصبِ كلِّ أرضٍ وسماء. فلا ينسى أن الأرضَ يُنبوعٌ يتدفّق، وساقيةٌ تُغَني بصوتها الشجيّ، تتدفّقُ “ماءً لحصان العائلة”.
ربما لم يخطُرْ ببال شوقي، آنئذٍ، أن سرَّ الطفولةِ يكاد يُختصَرُ بسرِّ الماء. وسرُّ الماء توجزُه “طقوسُ الماء” فيَستلُّ من سرّ الطفولة سرَّه الشعريّ ليقدِّمَ قربانَه “ماءً لحصان العائلة”.
ربما لم يصنعِ الفتى طياراتِه الورقيّةَ الملوّنة إلّا ليُبَلِّلَها بماءٍ عذبٍ من ماء القرية، ماء رشميّا، بعد أن تطيرَ ملوّنةً بألوانٍ ربيعيّة، وقبل أن يقَدِّمَ ماءها المقدّس “ماءً لحصان العائلة”.
ربما جَرَحَ جسدَ القصبةِ ليستلّ منها صلصالًا قبل أن يجرح إصبعه فيمتزج الماء بالصلصال بنقاط حمراء من دمه ليجعل منها جميعًا بعض “ماءٍ لحصان العائلة”.
والغريب في كلّ ذلك أنّ شوقي أبي شقرا، بقدر مالم يخطّط لكل تلك المصاحبة بينه وبين الطبيعة، اكتشف لاحقًا أنّها دخلت في مسام جلدته فشكلّت عالمه الخاص ومداره الذاتي الذي راح يغرُفُ من مَعينه حتى الثمالة.
الطفولة عنده غير منفصلة عن قشرة الأرض وعن الألعاب الأوليّة المستمِدَّة أدواتِها من المياه والتراب والهواء والضياء الذي عرف تفاصيلَها اللّصيقة بوجوه الطبيعة المتعدّدة الأشكال والألوان فشكّل منها لاحقًا مادّة ثريّة حيّة لبثِّه الشعري.
رَسْمَةٌ ثانية
الطفولة لديه حالةٌ قلقة، والحالةُ مزاجٌ متوهّج، والمزاجُ لغةٌ تبحث عن ذاتها في قلب اللغة، واللغةُ أسلوبٌ يتّسم بالغرابة، والأسلوبُ تجاعيدُ شِعريّةٌ في لولب صورةٍ بالأبيض والأسود، أو ملوّنةٍ بتلاوينَ طبشوريّةٍ لم يبقَ منها سوى بقايا مطحونةٍ يخلطُها الشاعرُ بالتراب كما يخلطُها بذاكرة الطفولةِ وألعابِها وخُيَلائِها. “قصبَةُ” هذا الشاعر “حصانُه”، وحصانُه “أرقُه”، وأرقُه “أقحوانةُ الحرير” التي “لا تأخذُ تاجَ فتى الهيكل” والتي لا تتقطّعُ خيوطُها ولا تذبُلُ بتَلاتُها.
الطفولة عند أبي شقرا لعبةٌ جارحة، لعبةٌ حزينة، بل لعبةٌ شقيّة، لكنّها، في كلّ حال، لعبةٌ نقيّةٌ بهيّةٌ أخّاذة، يلعبُها وحدَه. قد يكون هذا الشاعر جارحاً، حزيناً، شقيّاً، لكنَّه في كلّ حال، شاعرٌ نقيٌّ بهيٌّ أخّاذ، يلعبُ وحدَه لعبةً فريدةً نادرة، ولا ينتظرُ أحداً أن يأتي. هي لعبةٌ فريدة “لا تأخذُ تاجَ فتى الهيكل”.
الطفولة عند شوقي حرباء تتلوّن مع الألوان، فإذا صوّر لك الحبل تراه “حيّةً والبناتُ يرقصْنَ على صفير السهم، وأوراقي على الفحيح”، إذْ ذاك ينهضُ الشاعر و”يتبعُ الساحرَ ويكسرُ السنابلَ راكضاً”. وإذا انكسر القسطل “ركبنا على قصبةٍ، فارَتِ المياه، فتحْتُ قميصي، صرختُ، ضحكت.” وهو يبادرك لأنْ “تشتري قطّةً في كيس جنفيص، غزْلَ بناتٍ في ورقة، جِبنةً سوداء…” لأنّ الشاعر إذ ذاك “يتبعُ الساحرَ ويكسِرُ السنابلَ راكضاً”.
قليلٌ من الشعراء مَن تبقى طفولتُهُم حاضرةً في حياتهم حضورَ طفولةِ شوقي في حياته الشعريّة وفي حياته النثريّة بل في حياته المنثورة على جبين الفجر الباكر، كما على احمرار الأفق اللازورديّ، أو على حياتِهِ اليوميّة بتوقيتِها الثقافيّ أو الشخصيّ أو الاجتماعيّ. شوقي، من حيث يدري أو لا يدري “يتبعُ الساحرَ ويكسِرُ السنابلَ راكضاً”.
الريفُ عند شوقي نزهةٌ ليست كسائرِ النزْهات، هي نزهةٌ أبديّة. نزهةٌ لا تفارقُه حتى ولو ظلّ في قلب المدينة. نزهتُه الداخليّة لا يمكن إلا أن تكونَ نزهةً ريفيّةً بامتياز. لأن “ذاكرتي في القنطرة، حنيني رغيفُ الصاج… ويختفي العصفورُ في بطن الوردة، لا يضجُّ ولا يبصرُهُ الناطور.” والشاعر يحارُ كيف “يتبعُ الساحرَ ويكسِرُ السنابلَ راكضًا”.
الريف في قصائد الشاعر مفرداتٌ يكاد الزمان يغلّفها بقشرة من النسيان لكنه يحييها ثانيةً ويستوحي بعضَ شعره من أفياء “التوتة” ولذعةِ “الدبّور” وإبَرِ “العلَّيقة” وبُقَعِ “الكْبوش” وألوانِ “الزيز” وخريرِ “الشلال” ومشهدِ “حجَل الصخر” وأنوثةِ، وندرةِ “صمغ اللوزة” لماذا؟ لأن الشاعر يفيضُ بلغتِه الشعريّة و”لا يأخذُ تاجَ فتى الهيكل”.
هو يقَلِّبُ الكلمات لتتلظّى على وهْج الغرابة والدهشة والمعاني الجديدة، أو قلْ إنّه يسترسل في تقلُّب مفرداته باحثًا عن معنى المعنى فيدخل عالمَ أي. إي. ريتشاردز قبل أن يتوغّل في نظريّاته النقديّة المستحدثة. وهو مصرٌّ في ذلك على أن “لا يأخذُ تاجَ فتى الهيكل”.
رَسْمَةٌ رابعةٌ وأخيرة
هذا شاعرٌ “يحرثُ الكسل والتجاعيد” ويُهروِلُ مع “المراكبِ والقصائد”، ويختلط مع البطّ فإذا ما “سبَحَتْ متمايلةً رقَصَتْ جازاً”، فهو “الرسولُ المقلَّم… خفيفٌ لا يطير”، هو “مرتبطٌ بموعد الحق”.
هذا شاعرٌ “تدقّ أجراسُه حين يرتطِمُ باللحظات…”، ويعلو طنينُه حتى يسمَعَ “قمّةَ السكونِ تشكُرُ الطنين”.
هذا شاعرٌ لا وقتَ لديه “ليسمعَ الوقت…”، لا وقتَ لديه “ليسمعَ بوقَ المدائح وصنوجَ النقائض”. هذا شاعرٌ مختلفٌ “وإوَزَّةُ الاختلاف جاثمةٌ على الكُوَّة”.
هذا شاعرٌ يسكُبُه الشباب، يفرُّ من حضن النجمة، يفرُّ إلى عين الرقّة وصُوفِ السعادة، وينسَكِبُ على قياس جسَدِه وتقاسيمِ وجهِهِ في الذي يخُطُّه قلمُه.
هذا شاعرٌ لا يتردّد في أن يَفلَحَ الأرضَ اليباب ويُخبِرَ حارسَ الريح، ويخاطبَ الريحَ والعاصفة، ثمّ يغتسلُ بالنِّقطةِ على الورق.
هذا شاعرٌ يتقن خرمشةَ الحرير وحذفَ الرسْماتِ القديمة. هو في مهنته الشعريّة ينفخُ النيرانَ المسروقةَ ويستعيرُ من بناتِ القمر شرراً صوّانيّاً تنتعشُ به الأسطورة. ويتطايرُ هذا الشررُ ليَحرُقَ صفحةً واحدة من صفحات النهار استبدلها شوقي بصفحةٍ ثقافية رائدة، فكان المؤسِّسَ، بل المبتكرَ، لأوّلِ صفحةٍ ثقافيّة في الصِّحافة اللبنانيّة والعربيّة، وأوّلَ مؤسّسٍ لملحقٍ ثقافيّ في لبنان ودنيا العرب منذ ستينيّات القرن العشرين. ورغم تَسَتُّره المتعَمَّد، كان شوقي حاضرًا بقوّة في الصفحة الثقافيّة، كما في ملحق النهار، حضورَ شمسِ الظهيرة خلف كلِّ ظلالٍ، وخلف كلّ صخرٍ أو جلمود صخر.
هو، في شعره ونثره، يُغَنّي للحطب، ينسى طقوسَه، يَطرَبُ لرنين الصنَوبر، يراوحُ بين مخلبِ الصقر وقيثارةِ الفراشة، يغتربُ في زماننا، ويكسِرُ الخمرَ بالكلمات، ثمّ يهدأ هدوءَ السندِيان. شوقي أبي شقرا يكون إيّاه، يكون شوقي، في ما يكتب، أو لا يكون.
*****
(*) ألقيت في الاحتفال التكريمي للشاعر شوقي أبي شقرا الذي نظمه مكتب علاقات الخريجين في الجامعة اللبنانية الأميركية في بيروت.