نهاد الحايك
(كاتبة وشاعرة- لبنان)
المبدعون لا يكتفون بالخلود الذي وعدَتْنا به الأديان، فهم إما لا يَضمَنون جنَّةَ الما بعد، أو يطمعون بالجنتين.
والكاتب ريمون شبلي حتماً من الفئة الثانية. جنةُ الأرض يعمل على كسبها منذ ستة عشر كتاباً. وجنةُ الله هو معقودٌ عليها برابط الإيمان يتجلى في كتابته عن الموت، الموضوعِ الذي يستأثر بوجدانياته في “أشدو… وأشتاق”. فقد كتب في إحدى قصائده: “هنالك الجنةُ الكبرى قدِ انفتَحَتْ/لروحِكَ الحيِّ بدءًا يَسكنُ الأبَدا/هنالك الغبطةُ الكبرى تغوصُ بها/وتطمئنُّ .. تَرى اللهَ يمدُّ يدا”.
الموت والحياة، شغلا البشر منذ فجر الإنسانية، حاول الفلاسفة فكفكةَ ألغازِهما وعقلنةَ سببِهما وهدفِهما في كينونة الكون، وجاء الأنبياء بأجوبة لهما. ولكنهما يظلان شاغلين الإنسانَ أبداً.
لا ينفصل استحضارُ الراحلين عن النظر إلى الموت وجهاً لوجه. فعندما يُقرعُ ناقوس الكنيسة بطنّاته الـمُنبئة بأن الموت زار القرية، تجتاح الرهبةُ القلوبَ ولكنها تُبدَّدُ بالصلاة:
“قُرِعَ الناقوسُ بطيئاً/مَن لا يخشاهُ/أو يحذَرُهُ/أو يأباهُ!/ونُصلّي/لا نخشى ريحاً/لا نخشى ليلاً أو كمَدا …/ونصلّي .. نصلّي/لا نخشى الناقوسَ غدا!”
وكاتبنا متصالح مع الموت، يتوقع المصير بوداعة وينتظره بشموخ:
“هوذا يدنو!/أرى وقْعَ خُطاهُ يكبُرُ/ويزيدْ/وأنا أنتظرُ!/لا أبالي:
دافئٌ صدري، وإيماني وسيعْ/مطمئنٌّ خاطري، قلبي وديعْ…
قلتُ: طابَ السفرُ!”
لن أزن ديوان ريمون شبلي بميزان ولن أقارنه بمعيار. لن أتحدث عن دلالاتٍ ومذاهب، ولن أحلل بياناً ورموزاً، ولن أفكك ألغازَ بلاغة. سأسبِر بَواطنَ المعاني وأكتفي بقراءة تفاعلية على خلفيةٍ فلسفية.
نحن هنا أمام مياه صافية، بلورٍ شفيف، مناخٍ صادق وفضاءٍ نقي لا التباسَ فيه ولا حيرة. وليست سطوره بحاجة إلى تعرية أو تقشير. هي باب مفتوح يدعونا إلى الدخول، تستقبلنا صورٌ التقطها حسٌ مرهف من واقع الحياة بمرِّها وحُلوها، سَجَّلها قلمٌ فنان يستمد حبره من ينابيع الوجود وسطوعِ القيَم وبهاءِ الجمال، على لغةٍ ثريةٍ مِطواع تقطَّرت تقطيراً في مصفاة يراعه، وراحت تنزل على الوجدان كحبّاتِ مطرٍ على الرخام، وتَعْبُره.
يقف ريمون شبلي ثابتاً بين نهرين: أصالةٍ خائفة من الجمود وحداثةٍ حائرة من الجنون. شقَّ دربه ومشى معتزاً بأصالته المطلة على الحداثة، كتلك التي شقَّها صديقُه الشاعر جورج غانم:
“أجيئُك يا صديقي،/أُصلّي.. أنحني وأحطُّ زهرهْ/وأفتحُ بعضَ كُتْبٍ/وأقرأ في حداثتِك الأصيلهْ/
قصائدَ قلبك الرائي.”
في شعره، لا تَوغُّلَ في اللاوعي وغموضِه بل وعيٌ يُشرِع نوافذَه للهواء والشمس. فهو يفكك الحياة المعقدة، يطلقُ عليها ثورتَه الهادئة، ثم يعيد بناءها بطين الحكمةِ وماء المحبةِ وضَوءِ القصيدة. قلقُه الوجودي لا يوتِّرنا بل ينفخ نسَماتٍ مبرِّدات على جراحنا. ذلك لأنه على موعدٍ مع العبورِ إلى النور.
كَتبَ عن الراحلين من منطلق الاشتياق وليس من منطلق الحزن العدمي أو رفض الموت. وهذا ما أعلنه في العنوان. يشدو ذكراهم ويشتاق إليهم، إلى الأب والأم والزوجة والأصدقاء.
“أيا والدُ،/أيا سنديانهْ/بجذعٍ هو القلبُ والساعدُ،/هو الحبُ والحارسُ الماردُ…
بجذعٍ ولو جفَّ لا يقعُ/يظلُّ جداراً بوجه الرياحْ،/وطيباً يداوي الجراحْ”
والغربة التي تصيب النفس من رحيل الأحبة ليست هي جرحَه، لأنه مؤمن بأنه سيلتقيهم يوماً. جُرحُه الغربةُ عن وطن يشتاقه وهو فيه لأن هذا الوطن لم يتحقق بعد. هذا الوطن أشدُّ غياباً من الغائبين. فيربط شوقه الى أبيه بشوقه إلى نهوض الوطن الذي يعبث به تِنّينٌ غامض “متى يتقهقر التِنّين ويندثر؟” ولطول انتظار الكاتب للحظة تحطُّمِ وحشِ الـمِحَن كي يعبُرَ إلى الضفة الواعدة، لم يعد انتظاره فعلاً قد يتوقف. أصبح صِفةً ملازمة: “أبي، ثمان وعشرون ونحن انتظارْ”!
واقع المجتمع الذي يعيشه، والأصح الواقع الذي يموت منه كل يوم، هو أيضاً جرح لا يندمل. وحنينُه إلى الوالد الغائب/الحاضر ينسابُ نهراً يكاد يكون صافياً لو لم تتداخل معه مرارةٌ من مساوئ المجتمع. وتطفو خلاصات حياة:
“أبي، أيا سنديانه…/لَكَمْ تتجنّى أيادي الحياهْ/على مَن يخافُ الإلهْ،/على الآدميِّ الأبيّْ..!/وكم تفتحُ الحظَّ للمُستغِلِّ الـمُسيءْ،/لكلِّ رديءْ،/فلا الظلمَ تستوقفُ،/ولا تُنصِفُ!”
هذه الدرب السالكة أبداً للجميع، لا يَهابُـها ريمون شبلي. كيف لا وهو الذي أصابه الموت في الأغلى والأقربِ والأعز، عندما “بكَّر طائر الموت في التحليق فوق هامة عُمرِها”، وهذه هي الكلمات التي قدم بها لكتابه عن زوجته الراحلة “بَخور وسُبحة نور” عام 2013. وفي “أشدو… وأشتاق” يقول لها بقلبٍ جريح وروحٍ واثبة إلى الخلود: “أغمضتِ عينيكِ؛ جَفَّ النبضُ في الجسدِ/وسافرَتْ روحُكِ الخضراءُ في الأمَدِ/غداً أجيئُكِ مشتاقاً ومنتظراً ذاكَ اللقاءَ… نُغَنّي نغمةَ الـخُلُدِ.”
ويستجلب الحديثُ عن الموت تقليبَ الحياة بأزمنتها العديدة، فيسترجع الطفولة ويُسائلُ العمرَ ويحاكي ما تبقّى منه. فتتجاورُ قصائدُ الشوق إلى الراحلين مع قصائدِ الحنين إلى الطفولة وقصائدِ الإبحار في مجرى العمر. يرى تناقُصَ العمر في تراقُصِ شمعةِ عيد ميلاده: “مَن يُطفئُ الآخرَ؟ احْكِ الحقَّ يا عيدُ،/أنا؟ شموعُكَ؟ أَمْ زَفْراتُها السودُ؟”
في سطورٍ قليلة يتعامل مع الزمن من منظارين. فحيناً زمنٌ دائري وإيحاءٌ بالعَود الأبدي: “قصيرةٌ هذي الطريقُ المستديرهْ/مهما تَطُلْ قصيرهْ!”. وحيناً زمنٌ خطّي: “يا للبقاء! طويلةٌ طريقُهُ بلا انتهاءْ”.
كما ينازلُ الزمنَ الخارجي بزمنه الداخلي:
“بيننا معركةٌ قد تطولُ؛/تـتحدّى؟.. سيفوزُ القتيلُ.”
وللزمن عنده معنىً ثالثٌ أيضاً. فعندما يقول إن هذا الزمنَ كفيفٌ، إنما يقصد به مجتمعَ اليوم والواقعَ الراهن. فيقول إنّ هذا الزمنَ الكفيفَ يرى:
“في المستبِدِّ عظيماً قوياً،/ وفي مَن يُغَنّي السلامَ ضعيفَا
وفي حاضِنِ الحقِ وجهاً غبياً،/ وفي ناشر البُطْلِ صوتاً عفيفَا
وفي القلمِ النجمِ حبراً شحيحاً،/ وفي سارق الحرفِ حبراً مُضيفَا
ويا لكَ من زمنٍ فاقدٍ/بصيرتَه .. يستعيدُ الكهوفا!”
ومع ذلك، لا انفصام بين عالمه الداخلي والعالم الخارجي بل تداخُلٌ رغم التنافر واتحاٌد رغم التناقض. وربما هذا دأبُ مَن حَـمَل رسالة التربية وزرْعِ القيم: “احمِلِ الآتي بعينيكَ، بزِنديكَ، برؤياكَ/شموساً ونجوماً وقمرْ/وبُروقاً ورعوداً ومطرْ ../واحمِلِ العمرَ اشتياقاً يستمرْ.”
وكلما اشتد الوجع عظمت العزيمة. قلبه يضيء النار، لأنه نار أقوى من النار. يقول قلبُه: “أَمضي كما الطائرُ الموجوعُ، يَنفضُ عن/جناحِهِ الجمرَ، يعلو يضرِبُ الصَعبا/ويستردُّ مسافاتٍ وأجنحةً؛/يروحُ، بَعدُ، يضيءُ النارَ والشُهْبا.”
وبين المجيء والرحيل ومضةٌ تبدو لنا شعاعَ يقينٍ حيناً وطيفَ خرافةٍ أحياناً: “بينهما مسافةٌ قصيرهْ!/يدخلُ من بابٍ ويَعبرُ المسافهْ…/في آخر السبيلْ/يَخرجُ من بابٍ يقولْ:/كأنها خرافَهْ!”
والخيبةُ أختُ الخرافة في حياتنا الزئبقية: “كم غدا لونُ الحياةْ/بارداً،/شارداً،/ومراياها تَحوَّلْنَ خُرافاتِ مرايا/وأمانيها شظايا!”
ويسعى إلى ترسيخ حضوره في الدنيا وتبديد الشعور بأن سفرنا فيها كالخرافة: “…خُذْها وسَطِّرْ بصمةً ساطعةً/تدومْ،/سَطِّرْ حضوراً عَطِراً يُنيرْ،/يقوى على الظلامْ.”
في القصيدة التي أخذ عنوانَها “أشدو… وأشتاق”، عنواناً للديوان، يصف الدنيا التي يحلم بها “قصيدةً تشتعلُ.. وحريةً حدُّها الـمُثلُ.. وأُماً تعي.. وأباً يُجدي ويَهدي.. وجيلَ غدٍ طُموحُه قَفَزاتٌ في العُلى تَبني حداثتُه الآتي على حجرٍ من الأصالة.”
هذه مدرستُه وهذا نهجُه في الشعر: حداثةٌ على حجرٍ من الأصالة. حريةٌ ملتزمة. مرونةُ بحورٍ وصقلُ قَوافٍ من غير افتعال. ويصبُّ في هذا النهج مفهومُه للحقيقيّ والمزيَّف. فيقول عن السائد من الكتابة: “بعضُ أقلامٍ يُتعِبُ الحبرَ والأوراقَ ما همَّه مسيرُ اعوِجاجْ، وبعضُ أقلامٍ يحملُ النهرَ يُغريهِ نداءُ الجبالِ والأمواجْ.”
لم تُثبط يراعَه خيباتُ الزمن وزيفُه الـمُهَيْمِن على قليلِ صِدْقِه. بَلْسَمُه القلم وعقيدتُه الكتابة.
“يا مُقلقي، ورنينَ الذات، يا قلمي،/بيني وبينكَ وعدٌ أخضرٌ وعَدا/كنا يداً بيدٍ، نبقى معاً أبدا.”
هذا الرجل الذي وصفَ نفسَه بـــ “المنفيّ في قَدَرٍ من المحابر والأحلام”، ابنُ ساقية المسك، يسيل حبرُ شاعريته رقراقاً في ساقية الزمن ويرتحل مِسْكُها هادئاً كسحابات بيضاء في فضاء خيالنا.
أشعاره قُبَلٌ على ثغر الحياة، ورودٌ على ممر الممات، وعشبٌ لا ينفكُّ يفاجئ بخضرته هذا الخريف الـمُسلَط على دنيانا.
وأختم بما بدأتُ به، أن كاتبنا هو من الفئة التي تطمع بالجنتين. ولكن أضيف تصحيحاً ليس ببسيط: ريمون شبلي لم يطمع بالجنتين بل عمل لهما بجدارة واستحقاق. فقد كتب في إحدى قصائده أنه سمع الدنيا تقول له:
“لكَ الخلودُ بلِ اثنانِ امتَلكْتَهُما
بما كَتَبْتَ وما إيمانُك اعتقدا:
خلودُ روحِكَ واسْمٍ باسِمٍ حَفَرَتْ
حروفَهُ كُتُبٌ تستغرقُ الأمَدا.”
*****
(*) ألقيت في الندوة حول ديوان “أشدو… وأشتاق” للشاعر ريمون شبلي (الحركة الثقافية، أنطلياس، الثلاثاء 12 أبريل 2016).