خالد غزال
(كاتب وباحث- لبنان)
هل نضجت التسوية للأزمة السورية وبات النظام مقتنعاً بتقديم تنازلات جوهرية تمسّ طبيعة تكوين السلطة الراهنة؟ وهل توصّل رعاة الأزمة من القوى الدولية والإقليمية الى قناعة بضرورة الضغط على النظام لحل الأزمة؟ سؤالان يلخّصان النقاش الدائر منذ فترة حول مصير الحرب السورية، سواء داخل المعارضة أو داخل قوى النظام نفسه. فما هي حقيقة الحديث عن تسوية، وأين تكمن العقدة الرئيسية في تحقيقها أو في تواصل الأزمة؟
ليس من قبيل النظرة السوداء الى مسار الأزمة السورية القول أن كل المعطيات الظاهرة حتى الآن، ميدانياً وسياسياً وديبلوماسياً، لا تكفي لإطلاق حكم عن قرب إنجاز تسوية سياسية، أو حتى الى وقف إطلاق نار شامل. إذا كانت الأزمة متشعّبة الى حد كبير، إلا أن حلقة مركزية تكمن فيها وعليها يتوقف، الى حد كبير، نجاح التسوية أو فشلها. هذه الحلقة تتعلّق بمصير رأس النظام السوري أي في موقع الرئاسة تحديداً. فالنظام البعثي قام على قاعدة من المركزية الشديدة التي تجعل الرئيس مطلق الصلاحيات السياسية والعسكرية والأمنية والقضائية، بما يجعل البحث في مصير الرئاسة يساوي البحث في مصير النظام نفسه. تسود في الأوساط الدولية، خصوصا الأميركية والروسية، نظرة تشدد على أن النظام يجب الحفاظ عليه بصرف النظر عن مصير الرئيس في ختام التسوية. لا تعي هذه المقولة كيفية تركيب السلطة في سورية والموقع المفصلي الذي يحدّد طبيعة النظام، وهو الأمر الذي يدركه جيداً رأس النظام والكتلة المحيطة به.
في النظام السوري، تندمج عناصر تتكون من الهيمنة الأمنية والعسكرية، ومن اختزال السلطة السياسية بشخص، ومن تسييج هذا الحزام بكتلة طائفية ومذهبية، وبسيطرة اقتصادية من مقربين من الرئاسة… هذه العناصر المتداخلة تجعل من المس بها ما يشبه انهيار هذا الهيكل بالكامل. من هنا الرفض المطلق الحديث عن تسوية من دون بشارالأسد. في هذا المجال، تعي المعارضة السورية أنه من العبث الحديث عن تسوية في ظل بقاء الرئيس، لإدراكها تداخل موقعه مع بنية النظام إذا لم يكن في اختزالها، وهو الذي اختصر الانتفاضة بشعار: «الأسد أو يخرب البلد»، وترجم هذا الشعار عملياً على الأرض من خلال تدمير سورية، بشراً وحجراً. من هنا، ينبع عدم التفاؤل بحل الأزمة السورية من دون حل معضلة رئيسها، أي برحيله عن السلطة.
في المقابل، تبدو الأزمة اللبنانية على تشابه مع الأزمة السورية، لكن هذه المرة لجهة خلو مركز رئاسة الجمهورية. يعيش البلد منذ عامين، في فراغ رئاسي نتيجة العجز عن انتخاب رئيس. الأزمة هنا واضحة ولا لبس في أسبابها أو في الحلول الخاصة بها. إنها أزمة إصرار العماد ميشال عون على أن يكون رئيس البلاد، وألا تبقى الأزمة مفتوحة. وعلى غرار بشار الأسد، لم يكتم الجنرال مرة نيته بخراب البلد وبتدميره إذا لم تكن الرئاسة من نصيبه. يكرر الجنرال المعضلة نفسها التي كان بطلها في 1988، عندما أصرّ على انتخابه رئيساً وعطًل البلد ومؤسساته، وتسبب في مزيد من القتل والدمار.
لكن الأزمة اللبنانية، بعنوانها المركزي، تعطيل الرئاسة ومعها المؤسسات السياسية والدستورية، يكمن خلفها، هذه المرة، حزب الله الذي يمنع إجراء الانتخابات الرئاسية، حتى بعد أن بات المرشحان إليها من الفريق نفسه، أي فريق الثامن من آذار. في الشكل، يصر الحزب على أن مرشحه، أي الجنرال، هو الذي يجب أن يكون رئيساً وإلا فالفراغ مستمر. لكن الحقيقة أعمق بكثير، فالحزب الذي يسيطر الآن على مفاصل رئيسية في السلطة ومؤسساتها، لا يبدو في وارد الإفراج عن الأزمة والسماح بانتخاب رئيس للبلاد، ما يجعل المؤسسات اللبنانية معطلة مهما كانت تداعيات هذا التعطيل، السياسية والأمنية والاقتصادية.
يبدو لبنان أمام منعطف خطير ناجم عن تعطيل الرئاسة، خصوصاً في ظل الحديث الدولي والإقليمي عن تبدلات في الجغرافيا السياسية لدول المنطقة. فهذا الفراغ الذي يصر عليه طرف مذهبي يمتلك القوة العسكرية، ويورط البلاد في حرب إقليمية ويهدد مصالح اللبنانيين، هذا الفراغ ستكون له مفاعيله على صعيد الكيان والنظام على السواء. في 1988، رفعت قوى سياسية شعار أن ليس المهم من يكون رئيس الجمهورية، بل المهم أن تبقى الجمهورية، وهو العنوان المركزي اليوم الذي يتجدد، فمصير الرئاسة يعادل مصير الجمهورية نفسها، بقاء أو فناء.