تحرير، انعتاق، حزن، تمرّد، وقصائد لونية تنبض بالحنان
كلود أبو شقرا
بين 29 مارس و 14 أبريل 2016 تعرض الرسامة التشكيلية اللبنانية هدى بعلبكي، مجموعة جديدة من لوحاتها، في “غاليري ألوان”-بيروت تعكس من خلالها الواقع الذي يحيط بها.
في معرضها الخامس في “غاليري ألوان”، يبدو جلياً النضج الذي بلغته الرسامة التشكيلية والتطور في نظرتها إلى الأمور من منظار مغاير لما كان عليه في معارضها السابقة.
لم تعد الطبيعة في معرض هدى بعلبكي الجديد مثالية كما كانت تنظر إليها، بل أرادتها نابضة بتغيراتها النفسية، ولم يعد للحلم بالجمال والكمال حضور، إنما عين مراقبة للواقع المتغيّر والمتوتر، سواء في محيطها أو داخل نفسها.
ومن معالم التغيير في نظرتها رسمها لقريتها كيف اقتحمها العمران وأفقدها بعضاً من وجهها الأصيل ومعالمها الحقيقية، إلا أن ريشتها لم تفقد جماليتها واندماجها مع الطبيعة الجميلة بل راحت تبحث عن نوستالجيا لزمن طفولتها ولصور محفورة في ذاكرتها، في قرى ما زالت صامدة أمام اقتحام ثقافة الباطون التي تجتاح كل زاوية في لبنان باسم العمران.
لا تفصل هدى بعلبكي نفسها عن البيئة التي تعيش فيها، لذا تتنقل ريشتها بين جمالية معينة تارة ومشهد فيه ملامح حزن تارة أخرى، ويبدو ذلك جلياً في الخطوط الحاملة أكثر من رمز، فيما تبقى الألوان فرحة…
وجوه
الوجوه حاضرة في لوحات هدى بعلبكي الجديدة، ولكل واحد منها حكايته الخاصة، من تحرير وانعتاق، إلى تمرّد، إلى حزن كما في بورتريه المهرج الذي تنبض تقاسيم وجهه بمضامين نفسية، فلم يعد ذلك الشخص الذي يضحك الآخرين بل هو منكسر لأن الواقع المحيط به منكسر، فيبرز في اللوحات بوجهين، وجه مضحك وآخر حقيقي، وتقوم زهرة دوار الشمس في مشاهد كثيرة بما يشبه مهمة المهرج في الإمتاع، هنا تكمن العلاقة بينهما.
ترسم هدى بعلبكي الوجوه كما تراها هي وكما تشعر بها وليس بشكل أكاديمي كما تعلّمت في الجامعة، فيبدو الفرق واضحاً بينها وبين تلك التي رسمتها في معارضها السابقة، كونها تندرج ضمن مجمل لوحاتها المنبثقة من الواقع بعيداً عن الحلم والمثالية، مثقلة بجراح حولت أسماء الفصول إلى عناوين للفوضى والموت، فأين هو الربيع في هذه المنطقة في العالم؟ وإذا كان في معارضها السابقة يرمز إلى العطاء وتجدد الحياة فإنه هنا عنوان للفوضى والموت.
من مواليد بيروت 1968، تخصصت هدى بعلبكي في الرسم في معهد الفنون الجميلة التابع للجامعة اللبنانية. أقامت معارض فردية وشاركت في معارض جماعية في لبنان ودبي، ونالت جائزة مؤسسة الحريري في 2003. يأتي معرضها الأخير ضمن سلسلة معارضها في “غاليري ألوان” التي استهلتها في 2001.
قصائد لونية
في معارضها السابقة، رسمت هدى بعلبكي الطبيعة قصائد لونية تنبض بالحنان والراحة، وبدت ألوانها مشرقة تنثر على مساحة بيضاء أريجاً جمالياً يغوص عميقاً في نفسها إلى درجة الانبهار، فنهلت منه خطوطاً وألواناً مارست من خلالها لعبة النور والظل، كأنها في حضرة قوة منظورة وغير منظورة في آن، تسكنها وتوجه ريشتها لتسطر أروع ما خلق الله.
إذا كانت هدى بعلبكي رسمت في بداياتها لوحات تجريدية إلا أنها في السنوات الأخيرة كرست ريشتها لرسم مناظر طبيعية في مناطق مختلفة في لبنان، يبدو تعاقب الفصول جلياً في من خلال النور الذي يعزف على وتر التناقض بين الألوان القوية والهادئة.
ليست الطبيعة عند هدى بعلبكي هذه الجنة في منطقة البحر الأبيض المتوسط فحسب، إنما الملجأ الأمين في مواجهة الفوضى العمرانية والعنف الذي يحيط بلبنان، فوفرت للعين وللقلب مدى واسعاً تجول فيه الألوان وتصول بحيوية وحياة وتدعو المتفرّج إلى الغرق فيها…
يلهم المكان هدى بعلبكي ويعني الكثير بالنسبة إليها، ومن الطبيعي أن تترك بعضاً من روحها ومن ذاتها في أماكن كثيرة، تتنقل فيها ذكرياتها الجميلة منها والحزينة ومنها الجميلة. عبر التقنية التي تركز فيها على السماكة في اللون يمكن سماع صوت الرياح، وتلمس أجوبة لأسئلة تراودنا حول الهوية والكيان، وتوفير إيقاع متزن لحياتنا…
القاسم المشترك بين معارض هدى بعلبكي، هو الرسالة التي تركز عليها باستمرار والقائمة على ضرورة التحدي ومواجهة الموت بالتشبث بالحياة…