ضمن إطار منتدى تجاوز الشعري (رئيسه الدكتور ديزيريه سقّال ونائبه الشاعر الياس زغيب) الذي يقام كل يوم خميس، أحيت الكاتبة ميشلين حبيب أمسية شعرية في مطعم ليالي المير في السوق العتيق، جبيل، قرأت فيها مقطوعات تندرج ضمن النثر الفني.
قدم للأمسية الشاعر روبير البيطار بكلمة جاء فيها: “أهلاً وسهلاً بكم على متن الخطوط الجوّيّة الإبداعيّة… أهلاً بكم في فضاء النثر الفنّيّ… الرّجاء الاستعداد جيّدًا، وعدم التقيّد بأحزمة الأمان… فرحلتنا الخطيرةُ العشيّة، لذيذة وممتعة. لا ينتظر أحدٌ منكم أيُّها الحاضرونَ الكرام، أن يظلَّ مُسْتَمِعًا مُصَفِّقًا فَحَسب، فأنتم الليلة مدعوّونَ إلى المشاركة في النصّ، وفي إتمامه… هو لم يبدأ مع كاتبته ولن ينتهيَ معكم…
ضيفتنا هذا المساء ناشطةٌ بيئيّةٌ، وهي مندوبة الرابطة العربيّة للقصّة القصيرة جدًّا في لبنان. لها مؤلّفات عديدة منها في القصّة القصيرة جدًّا باللغة العربيّة: لأنّنا على قيد الحياة وسلسلة تعليميّة للأطفال باللغة الإنكليزيّة. كما كتبت مقالات كثيرة بالإنكليزيّة والعربيّة ونصوصًا في النثر وفي النثر الفنّيّ، نُشرت في صحف لبنانيّة وخليجيّة وعربيّة منها مصريّة وعراقيّة ومواقع ثقافيّة مختلفة … شاركت في لجنة التحكيم في مسابقة القصّة القصيرة في جريدة The National باللغة الإنكليزيّة في معرض أبو ظبي للكتاب، كما شاركت في لجان تحكيم عديدة ونشاطات وورش عمل وحوارات حول القصّة القصيرة والقصة القصيرة جدًّا وحبّ القراءة والكتابة ودور القصّة… في دبي وغيرها. لها مشاركات في قراءاتٍ للأطفال في المدارس. كما تقدّم برنامجًا تثقيفيًّا توعويًّا اجتماعيًّا مباشرًا على تلفزيون مريم TV Mariam اسمه: “زوايا”. وبرنامجًا آخر من كتابتها اسمه: ومضة (يُعْرَضُ قَريبًا).
قصَّتها القصيرة جدًّا، وَعَلى قِصَرِها وقلّة كلماتها (بعضها لا يتعدّى السطر الواحد) أسمّيها القصّة الكثيرة جدًّا، لما عبَّأَتْها من شحناتٍ وإشاراتٍ وآفاقٍ وسهولٍ وإيحاءاتٍ وعلامات استفهامٍ و… ربَّما شعر. (19 ـ 25 ـ 29(
نثرها الفنّيّ ( وهي الَّتي اختارت التسمية) سكبةُ نبض صادقة وجريئة حتّى الصّراخ، حتّى الحقيقة… يُقال إنَّ النثر الفنّيَّ نثر يستخدم الشعر لغايات نثريّة خالصة، أما قصيدة النثر فهي شعر يستخدم النثر لغايات شعرية خالصة. ونحن نقول لكم: دعكم من هذا وذاك، ولنقبل إلى فضاء الكاتبة والصحافية والصّديقة ميشلين حبيب، ولنحلّق معَها في سفرةٍ خميسيّةٍ تجاوزيَّةٍ إلى حقول نصّها المفتوح على المطلق.
بعض النصوص التي ألقتها ميشلين حبيب في الأمسية
شَمسٌ وَقَمَر
صَباحُ الخَيرِ
لِشَمسٍ حَزِينَةٍ،
وَمَطَرٍ جافٍّ
صَباحُ الخَيرِ لِعُمرٍ هائِمٍ
وَوَجهٍ نَسِيَ أَنَّهُ جَمِيل.
صَباحُ الخَيرِ لِدَمعٍ ضَائِعٍ
وَشَمعَةٍ حَضَرَت
وَلَم تَجِدْ أَحَدًا.
لِصَوتٍ يُكَلِّمُ نَفسَهُ
وَمَوتٍ مَلَّ الانتِظار.
مَساءُ الخَيرِ
لِقَمَرٍ جاءَ يُضِيءُ لِلشَّمسِ الحَزِينَةِ
وَلِنُقطَةِ ماءٍ هَرَبَت مِنَ المَطَرِ الجَافِّ
مَساءُ الخَيرِ لِلَحظَةٍ اختَبَأَت مِنَ العُمرِ الهائِمِ
وَلِعُيُونٍ في وَجهٍ نَسِيَ أَنَّهُ جَمِيل.
لِشَجَرَةٍ أَضاعَت دَربَها،
وَعُصفُورٍ سُرِقَت حَنْجَرَتُهُ،
وَرِيشَةٍ لا تَعرِفُ صاحِبَها.
مَساءُ الخَيرِ لِيَومٍ، لَم يَستَطِعْ لَمْلَمَةَ ساعاتِه
لِتَجاعِيدَ، نَسِيَت لِأَيِّ وَجهٍ تَنتَمِي
لِيَدَينِ، تَخافانِ اللَّمْسَ
وَلِصَوتٍ، يَحلُمُ بِالصَّدَى.
***
لِماذا أَنت؟
كُنتُ أَراكَ في أَحلامِي؟
لا،
كُنتُ أَراكَ في قَلبِي تَقِفُ شامِخًا بِطُولِكَ الفَارِعِ هُناكَ في الأُفُق.
وَلَطالَما سَأَلتُكَ: أَنتَ؟
لِماذا أَنتَ؟
كَم أُحِبُّ عِندَما تَضَعُ يَدَكَ القَوِيَّةَ تَحتَ ذَقنِكَ وَأَنتَ تُفَكِّرُ،
أَو تَنظُرُ إِلَيَّ عِندَما أَظهَرُ في البابِ لِأَتَفَقَّدَكَ.
وَتِلكَ العَينانِ المَلِيئَتانِ بِالحَنانِ،
قُلتُ لَكَ حِينَذاكَ إِنِّيَ لَن أَرَى مِثلَهُما أَبَدًا،
فَقَد كُنتُ أَنا وَمُوسِيقاكَ نَغرَقُ فِيهِما؛
وَلَم أَرَ مِثلَهُما.
هَل تَذكُرُ عِندَما كُنَّا نَحتَفِلُ بِالصَّباحِ على الرِّمالِ البارِدَةِ
الَّتِي كانَت تَفرَحُ وَتَحتَرِقُ بِدِفءِ قَلبَينَا كُلَّما رَأَتنا؟
هَل تَذكُرُ كَيفَ جَاءَتِ الأَمواجُ ذلكَ الصَّباحَ
تُقَبِّلُ قَدَمَيَّ مُحتَفِيَةً بِالحُبِّ الحاضِرِ في قَلبِي؟
وَأَنتَ،
رَفَعتَنِي يَومَها بَينَ ذِراعَيكَ
فَوَضَعتُ رَأسِي على كَتِفِكَ القَوِيَّةِ
وَأَكمَلنا الصَّباحَ
رِمالٌ تَلتَهِبُ بِحُبِّنا،
وَأَمواجٌ تَهدُرُ تَحِيَّةً لِقَلبَينا،
وَشَمسٌ تُلاحِقُنا مُبتَسِمَةً لِهَوانا.
وَهَمستَ لِي: “حَبِيبَتِي”.
هَل تَذكُرُ يا “حَبِيبَ عُمرِي”؟
****
لا تَرحَلْ فَأَنتَ لا تَعرِفُ الدَّربَ وَلا تَفهَمُ لُغَةَ الرَّحِيل.
لا تَرحَلْ فَأَنتَ لا تَرَى في عَتْمَةِ الرَّحِيلِ وَأَنتَ تَخافُ وُحُوشَه.
لا تَرحَلْ فَأَنا لَن أَكُونَ وَاقِفَةً عِندَ نَاصِيَةِ دَربِهِ أُرِيكَ اتِّجاهَ الطَّرِيق.
لا تَرحَلْ فَأَنا أَطفَأْتُ مَصَابِيحَ طَرِيقِ الرَّحِيل.
لَن تَرَى… لَن تَرَانِيَ، فَعَينايَ هُما هَا هُنا.
****
سَيَبقَى الحِمارُ حِمارًا
سَيَبقَى الحِمارُ حِمارًا، حَتَّى لَو أَجرَوْا لَهُ عَمَلِيَّاتِ تَجمِيلٍ، وَقَصَّرُوا أُذُنَيهِ، وَأَصلَحُوا أَسنانَهُ، وَخَفَّفُوا مِن الشُّحُومِ المُتَرَاكِمَةِ على جِسمِهِ، وَأَلبَسُوهُ جاكِتَةً وَبِنطالًا، وَأَجلَسُوهُ خَلفَ مَكتَب. سَيَبقَى النَّهِيقُ نَهِيقًا، حَتَّى وَلَو كانَ يَتَكَلَّمُ مِن مَركَزٍ قَوِيٍّ، وَحَتَّى لَو تَأَذَّت آذانُنا وَادَّعَينا أَنَّنا نَسمَعُ كَلامًا. سَيَبقَى الحِمارُ حِمارًا، حَتَّى لَو قَامَ يَمشِي وَيَخطُبُ فِي مُؤتَمَرَاتٍ وَمِهرَجانات. وَسَيَبقَى الرَّفْسُ رَفْسًا وَالأَذَى لاحِقًا بِكُلِّ مَن كانَ حَوَالَيهِ، وَبِالأَخَصِّ خَلفَهُ. فَالحَوافِرُ حَوَافِرُ حَتَّى لَو كانَ يَمُدُّها مِثلَ يَدٍ لِيُسَلِّمَ عَلَينا مُصافِحًا.
****
لَيتَكَ لَم تُخَبِّئْنِيَ فِي طَيَّاتِ ذَاتِكَ
حَبِيبِي،
أَضَعتُ طَرِيقَ العَودَةِ إِلى ذَاتِي.
****
في وَطَنِي سَرَقُوا الأَلوانَ مِن قَوسِ قُزَحٍ وَوَزَّعُوها على أَقواسِهِمُ السِّياسِيَّة. أَمَّا أنا فَأَلوانِيَ ما تَزالُ أَلوانِيَ، أَلوانَ قَوسِ قُزَحٍ الَّتي كانَت مِلكَهُ دائِمًا. سَأَضَعُها في لَوحَةٍ، وَعَلَى دَفتَرِ طِفلٍ، وفي كِتابِيَ حَيثُ مَكانُها؛ وَلَيسَ على شِعارِ حَملَةِ سِياسِيٍّ أَو زَعِيمٍ اختَطَفَها، وَاحتَكَرَها، وَجَعَلَها وَرَقَةَ نَعْيٍ مُلَوَّنَةً لِشَعبٍ وَبَلَد.
“كَلِماتٌ لَيسَت كَالكَلِمات”!
إِنَّهُ الشِّعرُ المُجَنَّحُ الرَّاقِي، ضاقَت بِهِ الأَوزانُ، فَانطَلَقَ في سَماءِ الحُرِّيَّةِ نُجُومًا مِن حُرُوفٍ، وَأَشِعَّةً تُلامِسُ كُلَّ شَغافٍ، وَرَنَّاتٍ تَغبِطُها المَزَاهِرُ وَالقَياثِير…
نُهَنِّئُ الأَدِيبَةَ الشَّفِيفَةَ مِيشلِين حَبِيب، وَنُهَنِّئُ القَراطِيسَ بِما تَلَقَّت مِن نَداها المُحْيِي!
مُورِيس وَدِيع النَجَّار 8/4/2016