كلود أبو شقرا
حرية، ديناميكية، اندفاع، وسيطرة على مساحة اللوحة البيضاء… هكذا يختصر المخرج المسرحي جلال خوري الرسام التشكيلي الشاب مارك غيراغوسيان، حفيد الراسم التشكيلي اللبناني الرائد بول غيراغوسيان، وهو رغم حداثة سنه إلا أنه، بغض النظر عن نظرته العدائية أحياناً إلى الواقع، يقدم نفسه كحاضن المدى واللون بحنان، على حد تعبير جلال خوري ايضاً. هذه العناصر وغيرها تبرز جلية في مجموعة لوحاته الجديدة التي عرضها في غاليري مارك هاشم في بيروت في عنوان “ضوء جديد” (15 مارس- 29 منه).
استلهم الرسام التشكيلي اللبناني- الألماني مارك غيراغوسيان من الثقافتين اللبنانية والألمانية صرامة وقوة تبدوان واضحتين في ضربات فرشاته، إلا أنه غلفها بانحناءات في الخطوط تبرز تأثره بالعاطفة التي تتسم بها الشخصية اللبنانية لا سيما جده الفنان الرائد بول غيراغوسيان.
الناظر إلى لوحات مارك غيراغوسيان يلاحظ أن ثمة حواراً صامتاً بين الفضاء واللون، بين الخطوط والمساحة البيضاء على اللوحة، وقد نجح في ترجمة ذلك في تأليف اللوحة وفي الحركات الداخلية التي تتسم بها الأشكال، وفي هذا المجال بالذات يبدو تأثر الفنان بالحداثة لا سيما تقنيات الضوء والشاشات المتوهجة والاتصالات الوهمية ومواقع التواصل الاجتماعي…
بداية مستقلة
حرص مارك غيراغوسيان على أن تكون بدايته خارج محيط أسرته، فاستقل في خطه التشكيلي عنها، لكنه وضع نظرياته في سياق مصادر التداخل المتنوعة الإلهام. التطوّر في مجال الفن، بالنسبة إليه، ليس مجرد عملية نقل، ولا يتعلّق الأمر بالتأثر بتيارات سابقة أو حالية، بل القيام بعملية عكسية في الماضي ونوع من الحركة في الوقت والخط، في بحث مستمر عن مصدر الخلائق.
على غرار سمك السلمون الذي يسبح ضد التيار لإيجاد مأوى له في نهاية هجرته، سبح وارك غيراغوسيان ضد التيار، وبقي خارج التيارات الرئيسة والاتجاهات الفنية، مشدداً على إيمانه بالمصدر.
ولد مارك غيراغوسيان، في عائلة حباها الله موهبة الرسم، ووسط عالم تسيطر عليه فلسفات مختلفة. بدأ مهنته في الرسم بمراجعة الماضي، اكتشاف كبار الرسامين في العصور المختلفة والتعلّم منهم، وشكلت فلسفتهم وتقنيتهم مادة أساسية طبعت اعماله.
بالنسبة إلى مارك الرسم هو أحد اشكال الحوار، لذا أغنى ثقافته التشكيلية بإرث الكبار وتردد على الفنانين المعاصرين.
أقام معارض فردية وجماعية في لبنان والمانيا حيث يقيم. لوحاته موجودة في مجموعات فنية، وساهم جامعو اللوحات في تعزيز موهبته الشابة والخام.
ظهرت موهبة مارك غيراغوسيان في وقت مبكر جداً، ونفذ بعض الأعمال التي لاقت تقديراً في سوق الفن، وكان بعد في سن المراهقة. بعد تحقيق نجاح في لبنان أثار انتباه الأوساط التشكيلية في الشرق، وعرض لوحاته في الإمارات العربية المتحدة.
يمكن وصف أعمال مارك غيراغوسيان بأنها حيّة ومجرّدة مع خلط ألوان وإتقان عملية تذويبها على الورق. تضفي لوحاته شعوراً بالإلفة والأصالة ومن السهل وضعها في أي بيئة يومية.لا اللافت أن اسعار لوحاته لا تزال ضمن نطاق المقبول، ويعتبر أحد أبرز الفنانين الذين يمكن استثمارهم في الفن.
تمرّد ورؤى
تكمن فرادة مارك غيراغوسيان في أنه تمرّد على محيطه وعلى عائلته، ولم يترك لهذا المحيط أن يؤثر حتى في انفعالاته، فجاءت لوحاته غنية برؤى جديدة وأفكار خاصة استلهمها من تراكمات ثقافية وأبعاد اكتسبها من اطلاعه على الحركة التشكيلية العالمية، فغذى روحه وفكره وصنع بنفسه خطه الخاص الذي يتأرجح بين التعبيرية والتجريدية، والحرية في رسم الخطوط والألوان والحركة، متخطياً الأساليب التقليدية في الرسم، من دون أن يقطع بالطبع علاقته مع الواقع، كيف لا وهو باحث دائم عن الحقيقة، وله صلات وثيقة بمجتمعيه اللبناني موطن عائلته والألماني مقرّ إقامته.
لا يهم مارك غيراغوسيان الأسلوب الذي ينقل بواسطته فكره إلى المتلقي بل الجوهر، لذا يبدو في كثير من أعماله ذات نظرة ورؤية خاصة تنقل المشاهد بعيداً عن واقعه الخاص إلى واقع الفنان وعالمه النابض بالحياة، عالمه اللامحدود الذي يتجاوز الشفق ويصل إلى ما بعد الكون، في محاولة لاكتشاف كنه الوجود.
الحضور الإنساني في أعمال مارك غيراغوسيان يتجاور مع حضور باقي الكائنات، فعالمه لا يكتمل إلا بهذا المزيج، لذا تبدو في معظمها خطوطاً وملامح تجريدية تشكل مفتاحاً لولوج عالم لا متناهٍ قد تفسح في المجال أمام دخول المتفرج إلى عوالم خاصة به ربما.
من هنا يمكن القول إن اللوحة عند مارك غيراغوسيان متداخلة في عناصرها وليس ثمة حدود تفصل بينها، فهي تنبض بروح واحدة تصب في معظمها في خدمة فكرة الفنان القائمة على رؤية عالمه بالألوان والخطوط وبالضوء الطالع من روحه التائقة غلى رؤية الجمال في عالم تسيطر عليه البشاعات من كل حدب وصوب.