ترومان كابوتي … العبقري الذي جنى على نفسه

jawdat hoshiar

د. جودت هوشيار

(كاتب- بغداد)

يقال إن ثمة كاتبان فقط يعرفهما الشارع الأميركي وهما  ارنست همنجواي ، وترومان كابوتي. واذا كان معظم نتاجات هيمنجواي قد ترجم إلى اللغة العربية، فإن نتاجات كابوتي، لم تحظ بالاهتمام ذاته في العالم العربي، رغم حضوره الدائم في المشهد الثقافي العالمي بعد أكثر من ثلاثة عقود على وفاته، وصدور مئات الطبعات الجديدة من أعماله الأدبية، و كتب عن سيرته الحياتية والأبداعية والعديد من الأفلام السينمائية المستوحاة من رواياته “إفطار في تيفاني” و”بدم بارد” وغيرهما، والتي فاز بعضها بجائزة الأوسكار. وكابوتي هو الكاتب المؤسس الحقيقي لجنس أدبي جديد يعرف بـ” الرواية غير الخيالية”.

ولد كابوتي في نيو أورليانز العام  1924. وكان في الرابعة من عمره عند طلاق والديه، وارسلته أمه إلى خالته ( ناني فولك) في مونوروفيل (ولاية الباما). انتقلت فولك بصحبة الصبي إلى نيويورك في عام 1931، ثم تزوجت رجل الأعمال الكوبي (جوزيف غارسيا كابوتي) الذي تبنى ترومان . .

تعلم كابوتي الكتابة في سن مبكرة ، ومنذ الثامنة من عمره بدأ بكتابة القصص القصيرة ، وفي الحادية عشرة من عمره، كان يكتب من ست الى تسع ساعات يومياً. وقد تم في الآونة الأخيرة العثور على عدة كراريس مكتوبة بخطه في أرشيف (مكتبة نيويورك) تتضمن أقاصيص كتبها في سنوات المراهقة. وقالت صحيفة “نيويورك تايمس” إن هذه المسودات التي تحفل بتصحيحات على الهوامش، تبدو مثيرة للدهشة، لأننا نرى فيها عبقرياً صغيراً يعمل، وتكشف عن موهبتة المبكرة ورؤيته للعالم .

التحق ترومان بكلية “ترينيتي” ولكنه ترك الدراسة عندما كان في السابعة عشرة قائلاً: “إن الدراسة في هذه الكلية مضيعة للوقت ولم اتعلم فيها شيئاً. والتحق للعمل كموظف بسيط في صحيفة (النيو يوركر).

كان العام 1945 سعيداً في حياة كابوتي، فقد نشر عدة أقاصيص، وتنبأ له النقاد بمستقبل واعد. وتعرف على الكاتبة الموهوبة ( كارسون ماكّاليرس  1917-1967) مؤلفة رواية ” القلب – صياد وحيد ” الصادرة عام 1940، وتوثقت العلاقة بينهما، فقد رأت كارسون في كابوتي روحاً قريبة من روحها وأسلوب كتابتها (التهكم، السخرية، أجواء القلق، والشعور بالوحدة). واطلق النقاد على هذا الاتجاه الأدبي اسم “القوطية الجنوبية”، حيث تتسم نتاجاتهما بخلفية جنوب البلاد.

truman kapoty

وفي اكتوبر 1945 وقع كابوتي عقداً مع دار نشر كبرى هي “راندوم هاوس” لنشر روايته الأولى “أصوات أخرى، غرف أخرى”، وفي ربيع العام 1946 فاز بجائزة ( أو. هنري )، ورحل الى مدينة الكتّاب “يادو” للتفرغ لكتابة الرواية. ونشرت مجلة “لايف” في العام 1947 مقالاً عن الكتّاب الشباب في الولايات المتحدة الأميركية تصدرته صورة لكابوتي شغلت ثلثي الصفحة. وتحت الصورة النص التالي: “ترومان كابوتي ابن (نيو اورليانز) يكتب قصصا لا تنسى”.

نشرت رواية “أصوات أخرى، غرف أخرى” في خريف العام ذاته. والرواية حكاية صبي يبحث عن والده فيجد نفسه. وبعد سنوات من نشر هذه الرواية قال عنها كابوتي “إنها كانت محاولة عفوية ولا واعية لطرد الشياطين، ولم أكن أدرك أن هذه الرواية – باستثناء الوصف وبعض الحوادث – شبيهة بسيرتي الذاتية. وعندما أعيد قراءتها الآن أجدها خداعا للنفس لا يغتفر “.

تحدث النقاد عن الكتاب الأول لـ”الكاتب الأمريكي الأشهر”. وقالوا عن الرواية إنها (مثلية) وحداثوية منحطة، وشبهوا كابوتي بفولكنر، وأوسكار وايلد، وادغار بو. وتصدرت الرواية قائمة أكثر الكتب رواجاً لمدة تسعة أسابيع، حسب لائحة صحيفة (نيويورك تايمز). وكانت لها أصداء واسعة وأخذت رسائل القراء من كل أنحاء البلاد تنهال على المؤلف. وخصصت (نيويورك تايمز) حقلا تحت عنوان “زاوية كابوتي” تنشر فيها آخر أخبار الكاتب الشاب مرة في الأسبوع. وإذا لم تكن ثمة أخبار كانت الجريدة تقول: “كابوتي: لا شيء جديداً عنه هذا الأسبوع .”

وكانت صورة كابوتي على الغلاف الأول للكتاب هي الأكثر إثارة للإعجاب: فتى وسيم، وأنيق، جالس على أريكة فكتورية الطراز، ونظرته تعطي انطباعاً عن رجل عليم بكل شيء. وقد سمع المصور هارولد هالم – الذي التقط الصورة –  محادثة دارت بين سيدتين كانتا تتطلعان الى صورة كابوتي في واجهة متجر للكتب. قالت الأولى: “أقول لكِ إنه فتى يافع”. فردت الثانية: “وأنا أقول إذا لم يكن يافعاً فإنه خطر”.

كان  (اندي وارهول) في العشرين من العمر ويعيش في (بيتسبرغ). وعندما رأى هذه الصورة تملكته رغبة عارمة في رؤية صاحبها والتعرف عليه، وانهالت رسائله على كابوتي، ثم جاء الى نيويورك ورابط عند باب منزل كابوتي ليلقي عليه نظرة عند خروجه. وفي نهاية المطاف أصبحا صديقين. كان وارهول رساماً، وقد أقام معرضه الفني الأول في قاعة “هيوج غاليري” في نيويورك في حزيران – تموز 1952. وعرض فيه 15 لوحة فنية مستوحاة من قصص ترومان كابوتي .

شهرة كابوتي سبقته الى أوروربا، التي زارها لمتابعة الإصدارات الجديدة من: “أصوات أخرى … غرف أخرى” في فرنسا وانجلترا. وأجرت المجلات والصحف الفرنسية مقابلات معه، وأصبح معروفا في الشارع الفرنسي، حيث كان الناس يتعرفون عليه عندما كان يتجول في شوارع باريس .

كتب كابوتي ذات مرة : “كنت دائما أريد أن أكون كاتباً مشهوراً وثرياً”. وعندما التحق بكلية خاصة ، كان يكره الطلبة الأغنياء لأنهم لم يكونوا “ذوي أذواق جيدة” وكان معجباً بالأشخاص العصاميين الذين نجحوا في الحياة.  وكل من عرف كابوتي شخصيا يقول إنه كانت لديه قابلية مدهشة في كسب الأصدقاء من أول نظرة، وفي أول لقاء. واستغل هذه القابلية في كسب قلوب النساء الشهيرات في المجتمع النيويوركي المخملي. كلهن كن جميلات، وثريات، يلبسن وفق آخر صرعات الموضة. بينهن مارلين مونرو والزابيث تايلور.

في كانون الأول 1965 سافر كابوتي الى الاتحاد السوفييتي مندوباً عن النيويوركر لتغطية فعاليات فرقة فنية أميركية زائرة. وقد أصدر كابوتي في العام التالي كتابا عن زيارته تحت عنوان “الإلهام يسمع”، وهو كتاب يتصف بالسخرية المرحة والوصف البديع. وكان هذا تجربته الأولى في كتابة الرواية غير الخيالية. رفض أن يكتب تحقيقا صحفيا تقليدياً وتعامل مع مادة الكتاب وفق تقنيات الفن الروائي. وبذلك سبق روّاد الصحافة الجديدة في استخدام التقنيات الفنية في الصحافة. وقال عن هذا الكتاب لاحقاً: “الإلهام يسمع” وجه أفكاري في اتجاه آخر. أردت أن أكتب رواية صحفية، وأصنع شيئا هائلاً يتسم بقوة الحقيقة المقنعة، وبتأثير مباشر، مثل أي فيلم جيد، أو نثر حر ومعمق، ودقيق كالشعر .”

ولكن لم يكن الوقت قد حان لمثل هذه الرواية، ذلك لأنه كان يعمل في كتابة روايته المشهورة ” إفطار في تيفاني” (1958). بطلة الرواية – هولي غولايتلي فتاة غريبة أخرى، كان كابوتي يهوى الكتابة عنها وعن  فتيات يشبهن الأولاد اللواتي من الصعب التخلص منهن، وإن كان من السهل فقدانهن. كانت هولي تأمل أن تتناول وجبة إفطار في تيفاني يوما ما. وتيفاني اسم  ورد في نكتة تقول –  إن بحاراً لم يكن على دراية بالماركات الحديثة، وسمع باسم تيفاني، وظن أنه اسم مطعم فاخر،  وتملكته رغبة في تناول وجبة افطار في هذا المطعم، ولم يكن يعلم أن (تيفاني) هو اسم مخزن مجوهرات … بعد صدور الرواية قال نورمان ميلر إن ترومان كابوتي أفضل كاتب في جيلنا  “

في العام 1961 أنتجت هوليود فيلماً بالعنوان ذاته. وكان كابوتي يرغب في قيام صديقته مارلين مونرو بدور البطولة فيه ولكن المخرج اختار أودري هيبورن. وجرى ادخال تعديلات كثيرة على الرواية. فعلى سبيل المثال البطل في الرواية كاتب ناشئ يعامل هولي بلطف، ولم يرتبط بها، أما في الفيلم فقد توجت علاقتهما بالزواج. ولقي الفيلم نجاحاً مذهلاً .

ولكن الشهرة المدوية لكابوتي في أميركا ومن ثم في العالم بأسره، جاءت مع نشر روايته “بدم بارد”، ولم تكن هذه الرواية العظيمة ستظهر، لولا المصادفة المحض، ففي عام 1959 قرأ كابوتي خبراً عن جريمة قتل عائلة من المزارعين في كانساس، في البداية اقترح كابوتي على صحيفة الـ(نيويوركر)، أن يقوم بكتابة سلسلة مقالات عن هذه الحادثة المروعة. وبعد سفره الى بلدة هولكومب التي وقعت فيها الجريمة، استولت عليه فكرة تأليف رواية عنها، وقضى ست سنوات، يحقق في هذه الجريمة الوحشية – التي كانت بلا معنى، حيث لم يجد القتلة في المنزل أي مال ولم يسرقوا شيئاً – ويحلل كابوتي الظروف الاجتماعية والخلفية السيكولوجية التي دفعت القاتلين ديك هيكوك وبيري سمث الى اقتراف ما اقترفا. وأحدث نشر الرواية في العام 1965 ضجة كبرى، وظلت لعدة أسابيع حديث الأوساط الثقافية والرأي العام الأميركي، وسرعان ما تم تحويلها الى فيلم سينمائي في هوليود. وبلغت حصة كابوتي من ارباح الكتاب والفيلم معاً حوالي ستة ملايين دولار. ولقيت الرواية اهتماما مكثفا من النقاد ومن وسائل الأعلام . وقيل إنها رواية رائعة. وتوجه كتّاب كثر لتقليد كابوتي في صنيعه ومنهم نورمان ميلر .

قرر كابوتي الاحتفال بهذا النجاح الكبير على طريقته، وأقام حفلاً هائلاً على شرف صاحبة صحيفة (واشنطن بوست ) كيت غراهام – أقوى إمرأة في الولايات المتحدة الأميركية – في 28 تشرين الثاني العام 1966 في فندق (بلازا هوتيل)،  ودعا الى الحفل (500) شخصية بارزة من وجوه المجتمع الأميركي. وكان الفنان الأميركي الشهير ملك (البوب – آرت) أندي وارهول (1928-1987) من ضمن المدعوين في حينه. وقال لاحقاً: “عندما وصلت إلى: بلازا”  أصبت بدهشة عظيمة. لم أر في حياتي مثل هذا العدد الكبير من المشاهير. أعتقد أن هذا كان أكبر تجمع للمشاهير في تأريخ العالم . “

على العموم فإن هذه الأيام الذهبية لم تستمر طويلاً، ذلك لأن كابوتي لم يكن سعيداً في حياته الخاصة قط، وسرعان ما انغمس في نمط العيش البوهيمي، وأدمن الكحول والمخدرات والحبوب المنومة. ومع ذلك كان يتهيأ لتفجير قنبلة أدبية أخرى – رواية “الدعوات المستجابة”، وتعاقد مع دار نشر ” راندوم هاوس” على نشر الكتاب عند اكتمال تأليفه. وباع الى هوليود حقوق تحويله الى فيلم سينمائي. ولكن العمل لم يكن يسير كما خطط له. وتأجل الموعد النهائي  لإكمال الرواية عدة مرات. وخلال عامي 1975-1976 نشر عدة فصول من الرواية في مجلة “اسكواير”. وكان الراوي أو سارد القصة، جونز طفلاً يتيماً ومن ثم كاتباً منحلاً، شبيها بالمؤلف نفسه. أما الشخصيات النسائية في الرواية، فقد كان من السهل التعرف عليهن، رغم تغيير أسمائهن، فقد كن من نجوم هوليود أو صديقات المؤلف من سيدات المجتمع المخملي. وقد كشفت الرواية غسيلهن واسرارهن الشخصية على الملأ .

يقول كابوتي “إن أبطال الرواية هم أشخاص حقيقيون، ولم أخترع أياً منهم. ولم تكتب كرواية عادية، حيث تقدم الحقائق على أنها متخيلة، بل إن نيتي كانت – على النقيض من ذلك –  نزع الأقنعة، وليس صنعها. “نزع كابوتي الأقنعة عن الوجوه حقاً، ولكن دفع ثمناً غالياً لذلك. انتحرت زوجة محافظ ، وأدار الآخرون ظهورهم له. ونشرت مجلة “نيويورك” كاريكاتيراً على غلافها يصور كابوتي على هيئة كلب يعض يد سيدة مجتمع. والنص المصاحب يقول: “كابوتي يعض اليد التي تطعمه”.

كان كابوتي أيضاً غاضباً: “يخيل إليهم أنني أعيش وفق قيمهم. أنا لم أعش هكذا أبداً”. ويبكي عندما يشرب ويقول نادماً: “لم أقصد الإساءة الى أي أحد”. ولم يكمل كابوتي كتابة هذه الرواية أبداً، فقد كان من الصعب عليه التركيز على عمله الأبداعي.

في عام 1979 قرر كابوتي بدء حياة جديدة، لا يعكرها اللهو الفاضح والإدمان، وأصدر كتاب “موسيقى الحرباء”  الذي يتألف من بورتريهات لشخصيات أجرى معها حوارات، من بينها مارلين مونرو ، وحوار مع نفسه يعلن فيه:” أنا مدمن كحول ومخدرات، أنا عبقري”، وقصة وثائقية تحت عنوان “نعوش محلية الصنع”. ظلت “موسيقى للحرباء” لمدة 16 أسبوعاً على رأس قائمة الكتب الأكثر رواجاً، وهذا حدث نادر بالنسبة إلى كتاب خليط من القصص القصيرة والذكريات والتحقيقات .

في أوائل العام 1980 تحسنت صحته وفكر في مشاريع جديدة ولكنه لم يستطع أن يترك شرب الكحول وشم المخدرات، رغم أنه كان يكرر دائماً أنها مضرة. دخل المصح عدة مرات وكان فيما مضى، يبقى صاحيا بعد خروجه  لمدة عدة أشهر، أما في سنواته الأخيرة فلم تكن صحوته تدوم لأكثر من يوم أو يومين ليعود بعدها الى تدمير نفسه. وكان يخيل إليه أن ثمة أشباحاً تلاحقه في كل مكان في نيويورك. وقرر الاختباء في لوس انجلوس في منزل جوان كارسون حيث توفي في 25 أغسطس العام 1984 من التليف الكبدي، ليتحول بعدها إلى أسطورة دائمة الحضور في المشهد الثقافي في العالم، حيث يعود إلى الأضواء في كل مرة ينشر فيها شيئاً من نتاجاته غير المنشورة  أو مذكرات الآخرين عنه، أو الكتب الجديدة عن سيرة حياته .

اترك رد