أنسي الحاج في ذكرى رحيله الثانية… “كان هذا سهواً”

Ounsi cover Capture

غلاف كان هذا سهواً

كلود أبو شقرا

(صحافية-لبنان)

“لم أكتب هذه الرسائل ولا تلك المقالات، ولم أكن إلّا قليلاً في الأيّام حيث كنت”، هذه الكلمات تختصر الحالة التي كتب فيها الشاعر أنسي الحاج نصوصاً تتمحور حول الميتافيزيك، الدين، الفن، الموسيقى، الحب، السلوك، الأدب، فضلا عن قصيدة “غيوم”، وصدرت  للمرة الأولى في كتاب بعنوان “كان هذا سهواً” (دار نوفل- بيروت)  في الذكرى الثانية لرحيله.

لأنسي الحاج فلسفة خاصة في الحياة قد لا يفهمها إلا من يقرأ بين السطور وما وراء الكلمات، ليكتشف من خلالها أن هذا الشاعر الكبير والرائد بالغ الشفافية إلى حد الخجل، يتنفس حباً وحرية، يعاني خيبات الوحدة ويستحضر النور من عمق سعادة عاشها بالحلم والخيال وافتقدها في اليقظة.

فلسفة

نتاج أنسي الحاج توغل في الذات، لا ليكتشف كنهها بل ليخرج منها متفوقاً على ذاته وعلى ذاكرته، سائراً في الحياة بين الوهم والواقع، فتأخذ المراحل العمرية مفاهيم وأبعاداً،  تتغيرّ ربما لكنها لا تشيخ، إنما هي في بحث دائم عن واقع آخر، عن حقائق ضخمة، عن عشق لا يدنسه الجسد…

في نصوص “كان سهواً”، تبدو الحياة هذا الاستعداد للّذي قد ينقضي معظم العمر قبل أن يحدث لكنّه سيحدث، هي هذا الاستعداد الكامل والهائل والدائم لحدوث الحياة.  عاش أنسي الحاج  هائماً في المستقبل  متجاوزاً اللحظة الحاضرة وقافزاً فوق الذكريات إلى حيث الحرية في “إنكار المرء  حياته إنْ هي لم تشبه مُناه”، وأن “لا يعترف في عُباب هذا البحر المترامي وراءه إلّا بحبّات من الملح وبضع نقاط من البخار”. لذا  يحفر في الهاجس “حتى ينبجِسَ اللبّ من الطرف الآخر، فإمّا جوهرة، وإمّا فرَج الفراغ”،  ويغرق في الماورائيات إلى حد الانعتاق  وبلوغ مكان يسمع فيها روحه اكثر…

هدير الفكر

هذه الشذرات هي  ملامح من فلسفة انسي الحاج في الحب والحياة والنظرة إلى الإنسان، المهم لديه ليس أن “تحب ليس لرغبتك في الحب بل لعدم رغبتك فيه،  وطالما لا  ننجذب  إلا لعابدي أنفسهم فسوف نظل عبيداً”.

للسكون عنده، مفهومه الخاص، فهو يكون على أشدَّه وسط الصخب النفسي، وضجيج العالم الذي يتحوّل عنده  إلى مجرّد حشرجات، لأن لا شيء يصيح أقوى من هدير الفكر.  

الحب عند أنسي الحاج كان محور حياته والطاقة التي يستمد منها القوة للانطلاق في مغامرة الأيام. فلسفة الحب عنده تُختصر بكلمتين:  “كم يُحِبّ حين يُحِبّ!” هذا الحب،  يتمتّع بسلطان المغفرة يفيض نوره المتوهّج من القلب إلى العقل، ينقل الدفء وحيثما يحضر  يتبخّر الغضب،  فيملأ المكان شموعاً لا تنطفئ.

واقع مذرٍ

أنسي الحاج الباحث أبداً عن لحظات سمو وسكون، تألم من الإرهاب وأصداء الموت المعشش في كل زاوية، والصراعات الدينية والأصولية، وطغيان الفساد والعفن والعشائرية…  فلا يبقى بالنسبة إليه سوى الفراغ الممل الفراغ القاتل والانحدار إلى أسفل المدارك إلى ما لا نهاية، وحرق الذاكرة…  

وحدهم الثوار الحقيقيون، في رأيه، يعيدون الكرامة والحرية والحق إلى هذه الأرض ويغيرون تاريخ العرب الذي تسيطر عليه  لعبة الحكم والمعارضة الكاسدة  والمثيرة للاشمئزاز والفشل  والسقوط في هاوية الحروب والدمار، كيف لا  والبشريّة كانت وما زالت تقتل الشهداء لتعبدهم وتعبد الآلهة لتقتلهم.

عالم انسي الحاج  الحقيقي هو في داخله، ففيه لا يشعر بالوحدة بل يتنقل في مدى لا محدود، وتتهذب حواسه متحررة من خليط العالم المجبول بالكراهية والحقد. يقول: “نحن مأهولون وفارغون، وما يسكننا ليس الملء بل الخواء. ما تقوله هو الشغب الذي يُنَشّز على وحدتك، لا صفاء هذه الوحدة. الوحدة في صفائها لا تعرف حاجة إلى قول”. إنه دائم اليقظة يخترق حدود الأنا  “قبل أن تصرخ على الوجود”.

وفي مكان آخر يقول: “التراجيكي الصارخ ثقيلُ الظلّ، الأفضل منه، الأعمق، هو التراجيكي الخافت خفوتَ الأَسَد المصاب، أو الكلب الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة وحيداً مع توجّع نظراته، التي لا ينقطع حنانها على البشر حتّى وهي تودّع الحياة”…

نبذة

أنسي الحاج (1937-2014) شاعر قصيدة النثر والرائد المؤسِّس لها منذ ديوانه الأول “لن” (1960)، الذي تبعه: “الرأس المقطوع” (1963)، “ماضي الأيام الآتية” (1965)، “ماذا صنعت بالذهب ماذا فعلت بالوردة” (1970)، “الرسولة بشَعرها الطويل حتى الينابيع” (1975)، “الوليمة” (1994).

كذلك صدر له كتاب مقالات في ثلاثة أجزاء “كلمات كلمات كلمات” (1978)، وكتابان في التأمّل الفلسفيّ والوجدانيّ “خواتم 1″ (1991) و”خواتم2” (1997).

تُرجمت مختارات من قصائده إلى الفرنسيّة والإنكليزيّة والألمانيّة والبرتغاليّة والأرمنيّة والفنلنديّة.

*****

(*) جريدة الجريدة الكويتية 

اترك رد