برعاية الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي وبدعوة من مؤسسة بوداكيان، أقيم في بكركي احتفال وطني شاركت فيه الطوائف المسيحية، تخليداً لذكرى شهدائها الذين افتدوا الصليب، تم خلاله رفع الستارة عن نصب الصليب الحجري- الخاتشكار الذي قدمه سركيس بوداكيان، وذلك في حضور قداسة الكاثوليكوس آرام الأول وحشد من الوزراء والنواب ورجال الدين وشخصيات ثقافية وإعلامية واجتماعية… وألقيت خلاله كلمات لكل من: السيدة جولي بوداكيان، الدكتورة المؤرخة كريستين بابكيان عساف، الشاعر الدكتور عبده لبكي، الشاعر الدكتور محمد علي شمس الدين، الدكتور غالب غانم، وكان لقداسة الكاثوليكوس آرام الأول كلمة في المناسبة ولنيافة الكريدنال مار بشارة بطرس الراعي كلمة ختامية.
تخلل الحفل فقرة موسيقية أحيتها جوقة القديسة رفقا بقيادة الأخت مارانا سعد، وقدمت تراتيل وأغنيات لفيروز وأنشدت أغنية بالأرمنية عنوانها “كيليكيا”.
جولي بوداكيان
افتتح الحفل بكلمة للسيدة جولي بوداكيان أكدت فيها أن “المسيحيين الذين استوطنوا هذه الأصقاع وبنوا القرى والمدن ونحتوا الصخرَ لإقامة صوامِعهم ومناسِكهم ، كما المسيحيين الأرمن الذين هم أوّلُ من اعتنق المسيحية وعانوا ما عانوه من ظلمٍ وأهوال في سبيل إيمانِهم المسيحي، هم أيضاً أتوا إلى هذا البلدِ الصغير وساهموا بعملهم وجُهدهم في تقدّمه وازدهاره”.
أضافت: “لقد أردنا زوجي سركيس بوداكيان وأنا، أن نعبّرَ عن محبّتنا للبنان من خلال بكركي،هذا الصِرح المجيد، الذي عانى من الإضطهاد والمشقّات، على مدى تاريخه، وبقيَ المِشْعَلَ المَشْرقيّ المضيء”.
تابعت: “إنَّ هذا الاحتضانَ المبارَك الذي تقومُ به بكركي اليوم على يدِ نيافتكم دليلٌ صارِخٌ يثبّتُ شعارَكم “شَرِكة ومحبّة”، وقد انطلقتُم به، مواكبينَ شعبَكم، بِحِرصِكُم الشديد على توحيدِ الخُطى لمواجهةِ الأخطارِ ولمّ الشملِ”.
الكاثوليكوس أرام الأول
بعد ذلك ألقى قداسة الكاثوليكوس أرام الأول كلمة بالفرنسية اعتبر فيها أن الصليب ليس علامة المسيحية فقط، وإنما رمز انتصار وقيامة المسيح على الموت. فلقد حقق المسيح القيامة بصليبه، وبانتصار صليبه أنار للعالم أجمع الدرب الحقيقي للحياة، وبصليبه شَهَدَ المسيح بأن لا يمكن دفن الحقيقة. وعبر التاريخ أصبح الصليب قيمة للحياة ووسيلة عظيمة للنضال من أجل الحقيقة.
ومما قال: “لم يبقَ الشعب الأرمني وفياً لصليب المسيح فقط وإنما بقي ايضاً وفياً لرسالة الصليب وسّره وعاش الصليب وجعله محور حياته. هنا يكمن سرّ ديمومة هذا الشعب الصغير أمام عواصف وتحديات التاريخ. ولهذا السبب فإن الصليب الحجري أو ما نسميه “الخاتشكار” ليس مجرد منحوتة فنية بالنسبة لهذا الشعب وإنما أصبحت مُنَبِه لإبراز محورية الصليب وأيضاً دليلٌ للوصول إلى الطريق الذي يؤدي للمسيح”.
أشار إلى إن “وضع هذا “الخاتشكار” في هذا الصرح العظيم بمناسبة الذكرى المئوية للإبادة الأرمنية هو خير دليلٍ للوحدة المسيحية المتكاملة بالصليب، وحدةُ علينا التعبير عنها عملياً خاصة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخ الشرق الأوسط”.
أكد أن “وضع نُصب الصليب الحجري في بكركي هو أيضاً تعبير عن امتنان الأرمن اللبنانيين للشعب اللبناني الذي استقبل بكل رحابة صدر أولئك الذين كتب لهم الحياة من المجازر والإبادة، واليوم يشارك أحفادهم، بكامل حقوق المواطنة، في ازدهار وتقوية بلدهم لبنان. فعلى كل الوافدين إلى بكركي ومشاهدتهم هذا النصب التذكاري أن يتذكروا بأن الشعوب التي عاشت بقوة الصليب سيصلون حتماً إلى الرجاء ودرب القيامة. هذا هو إيماننا”.
كريستين عساف
في كلمتها التي القتها بالفرنسية أشارت الدكتورة كريستين بابكيان عساف إلى انه منذ 93 سنة استقبل البطريرك الماروني الحويّك كاثوليكوس كيليكيا ساهاك الثاني يرافقه وفد أرمني للتعبير عن امتنانهم لاستقبال اللبنانيين الشعب الأرمني بحرارة لا سيما الموارنة. واليوم يتجدد هذا الفعل بقبول بكركي وضع الحجر الأرمني في باحتها.
أضافت أن هذا الصليب الذي قدمته عائلة بوداكيان هو فعل شكر من قبل المجتمع اللبناني من أصل أرمني وفعل تجذر في أرض لبنان وفعل إيمان بمستقبله.
تابعت: “الخاتشكار الذي يرمز إلى الذاكرة الجماعية للشعب الأرمني يجدد إيمان الشعب الأرمني بهذا البلد الذي اصبح وطنهم، واختيار بكركي، هو اختيار لمعقل المسيحية ليس في لبنان فحسب إنما في الشرق الأوسط، رمز الأمة والسيادة اللبنانية والاعتدال والوحدة في هذا الشرق المضطرب الواقع فريسة المتطرفين”.
عبده لبكي
بدوره ألقى الشاعر الدكتور عبده لبكي كلمة صاغها من طبيعة أرمينيا وتاريخها بأسلوب راقٍ تميّز بجماله وتماسكه، إضافة إلى إلقائه الشجي الذي غمر الأجواء بمشاعر المحبة والتضامن.
محمد علي شمس الدين
ألقى الدكتور محمد علي شمس الدين قصيدة للشاعر بروير سيفاك بعنوان “إلى قومي” من كتاب “شعراؤنا صنعوا مجد أرمينيا” الذي يتضمن قصائد لشعراء أرمن ترجمتها إلى العربية الكاتبة جولي مراد.
كيغام
أكد المطران كيغام خاتشريان في كلمته أن “في هذا المكان المبارك، يتحقَّقُ الحُلمُ في هذه القلعةِ المارونيةِ الصامدة، على ربى لبنان، فيتخذَ الصليبُ الحَجَريّ “الخاتشكار” مكانَه الأبديّ في ساحة بكركي برعاية أبي اللبنانيين جميعًا نيافة الكاردينال الراعي، ليُصبِحَ مزارّا للأرمن ايضاً كما كان المُصَلّى لجميع المؤمنين”.
أضاف: “تباركَ السعيُ واليَدُ التي سترفعُ السِّتارة عن الرمزِ الأسمى، وأطالَ الربُّ أناةَ راعينا الذي حملَ صليبَ الشرقِ على كتفيهِ وفي قلبهِ وعقلهِ، وتباركَ اللقاءُ بحضورِ أبينا وراعينا قداسة الكاثوليكوس آرام الأول.
نشكرُ المبادرةَ الكريمةَ لسيّدِنا ومُعينِنا على إتاحةِ الأمل وتوحيدِ الجهود للمحافظةِ على الكَيان تحتَ ظِلالِ هذا الديرِ الأصيلِ في رِحاب القداسة.
إن جمالَ لبنان يتجسَّدُ بِوَحْدتِنا وتطلُّعِنا إلى ساعةٍ تُطوى فيها عذاباتُ الأمسِ والحاضرِ بفضلِ الرؤيةِ الحكيمةِ المُتدارِكَةِ للأخطار.
إن هذا المكانَ الرَّحبَ في محبّتِه، يُتيحُ لإيمانِنا الانطلاقَ ليَبلُغَ صفاءه”.
غالب غانم
اعتبر الدكتور غالب غانم في كلمته أن “في صرحِ لبنانَ الأفيَح، في بكركي التاريخِ والوطنيّةِ ونجمةِ المشرقِ وقِبْلةِ الأحرار… يلتقي أصحابُ فتى الألوهةِ ورسولِ السّلام، للتذكُّر والاحتفاء، ولاستقبالِ رمزٍ مقدّس من رموز حضارةٍ معرّقةٍ في القِدم… لاستقبالِ “الختشكار” (Khatchkar) الذي سيجدُ له منازلَ في رَحَباتِ هذه الأرض وفي صدورِ أبنائها… هذا، والصّليب هو إيّاه، حجريّاً كان أم من خشبِ الأرز، أرمنيَّ اللّمسات أم لبنانِيَّها، منقوشاً بزُخرفٍ أم مرسوماً بعفويّةٍ على الرّمال، مُحَدّداً بإشارةِ اليد أم مُتَخيَّلاً في خطراتِ البال… أجل! الصّليبُ هو إيّاه… بعد الافتداءِ الأعظم، بات عنواناً للأخوّةِ الإنسانيّة، للقلوبِ مطمئنةً إلى القلوب، لاكتشافِ أنّ الغريبَ قريبٌ وأنّ الآخَرَ جزءٌ منك، لِلَّيانِ والمجاورةِ والمحاورةِ والإلفةِ والوئام، وأحياناً للعِصيانِ من أجل الحقّ… كما هي حالُ صليبكم وجُلجلتِكمْ ومكابداتِكمُ وقوافلِ شهدائكم وعِصيانِكُمْ يا إخوتَنا أبناء الحضارةِ الأرمنيّة”.
ومما جاء في كلمته أيضاً: “إلى ذخائِرِ بكركي ومآثِرها ينضمُّ “الصليب الحجريّ” الآتي من حضارةِ الروح… بينما حضارةُ المادّة، وأحياناً بداوتُها، تُمزّقُ القيمَ الانسانيّة، صفحةً بعد صفحة، وتمحو المعالمَ الحضاريّة، وجهاً بعد وجه.
المسيحيّة والإسلامُ العظيمان، دياناتُ المَشرِقين والثقافاتُ جميعاً، الدولُ التي لم تُسكِرْها بعدُ انتصاراتها الدنيويّة، المنظّمات العالميّة، الغيارى على ما ابتكرته عقولٌ وأيادٍ استمدّت مواهبها من لدُنِ اليدِ العليا… وبقايا الضمائر… أجل، بقايا الضمائر… هؤلاء جميعاً مدعوون إلى أن يستقيظوا ويهبّوا لحماية ما تحدَّرَ عن السّلف المبدع، وما تركه الأمسُ لليوم، وللغد… “الصليبُ الحجري”، على غِرار المصلوب الذي أتى ليخلّص العالم، يُمثّل أَعلى ذرى العذاب المُحْيي وأعلى ذرى الحريّة. وهو، على غراره أيضاً، صرخةٌ وشهادة، لا لإنقاذ نفسهِ وحسب، بل لإنقاذ ذخائر التراث الإنسانيّ جميعاً”.
البطريرك الراعي
في كلمته اعتبر الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي أن “هذا الاحتفال برفع الستار عن نصب الصليب الحجر-خاتشكار، الذي يُكرّم في ساحة البطريركية الأنطاكية المارونية في بكركي، تخليدًا لذكرى شهداء الكنيسة الأرمنيّة في الذكرى المئوية للإبادة، إنما ينطوي عندنا على أبعاد ثلاثة: إيمانية، كنسية، وطنية”.
في البُعد الإيماني قال: “هذا الصليب المنحوت في الصخر، ويُدعى بالأرمنيّة “خاتشكار”، يعود إلى القرن الخامس. صخرتُه من صخور أرمينيا التي صاغت شخصيّة الشعب الأرمني المقدام، الطموح، الخلّاق والخلوق. إنّه يدعونا لنرفع أنظارنا في كلّ لحظة وحالة إلى صليب المسيح الخلاصي، بإيمان ورجاء صامدين صمود الصخر. هكذا فعل الأخوة الأرمن على مدى تاريخهم، حتى أنّهم زرعوه في كلّ مكان: في كنائسهم وأديرتهم ومقابرهم، في سهولهم وعلى قمم جبالهم، بل في أعماق نفوسهم. منه استمدّوا دائمًا قوّتهم ووحدتهم. وعندما لحقت بهم المظالم حملوه في قلوبهم إلى عواصم العالم، والتفّوا حوله، ولمّوا شملهم، وبالبقيّة الباقية من إبادة 1915 أعادوا بناء كنيستهم وتكوين شعبهم. فلم يفصلوا بين الصليب والقيامة، ولذلك نحتوا في طيّات هذا الصليب شجرة الحياة”.
في البُعد الكنسي أضاف: “صليب خاتشكار يدل على روابط الأخوّة والتعاون بين الكنيستَين الأرمنيّة والمارونيّة، وهي روابط تجمعنا مع كلّ كنائس الشَّرق الأخرى وتشدّنا إلى هذه الأرض، التي عليها رُفع صليب الفداء، وفيها يأتمننا المسيح الربّ على إعلان إنجيل يسوع المسيح الخلاصي والشهادة له، من أجل بناء حضارة المحبة والسلام. ومهما قست الأيام علينا، سنظلّ صامدين أكثر فاكثر، وتتّسع أمامنا مساحات التعاون على كلّ صعيد. صليب خاتشكار في ساحة البطريركيّة المارونيّة في بكركي إنّما يرمز أبدًا إلى الرباط الكنسي الوطيد بينها وبين كاثوليكوسية بيت كيليكيا وكاثوليكوسية اتشميادزين، وهو رباط آخذ دائمًا بشدّ عراه. والزهرة الرمزية بألوانها الناطقة تضعنا معهم في الذاكرة، فلا ننسى شهداءنا؛ وهي ترفع أفكارنا وقلوبنا إلى نور الحياة، وتطلقنا نحو بناء مستقبل أفضل”.
في البعد الوطني تابع: “صليب “خاتشكار” هو حارس الوطن ومصدر قوّته، ومنبع ثقافة المحبة والعطاء. هكذا عرفنا الشعب الأرمني في لبنان. عرفناه شعبًا مخلصًا لهذا الوطن، يعمل ويكدّ في سبيل حياة كريمة، ويُسهم إسهامًا كبيرًا في اقتصاده ونموّه. ولا عجب في ذلك، فهم بشجاعتهم وعملهم وجهدهم بنوا في أرمينيا دولة، وكوَّنوا من ذواتهم أمّة، يحافظون فيها على وحدتهم وتراثهم الثقافي والروحي والحضاري التاريخي النفيس. إنهم بذلك مثال لجميع الشعوب، وبخاصّة للشعب اللبناني، مسؤولين ومواطنين، في ظرف الضياع هذا، فيما يقفون فيه وكأنّهم غير مبالين وغير مسؤولين عن إعادة بناء دولتهم وأمّتهم اللبنانية التي هي قيمة حضارية ثمنية”.
بعد ذلك رفع البطريرك الراعي يرافقه البطريرك آرام الستارة عن نصب الصليب الحجري، وأقيم كوكتيل في المناسبة.