يارا نصراني
إيلي مارون خليل، أديب ومُرَبٍّ وشاعر كسروانيّ/لبنانيّ، له ما يفوق الأربعين كتابًا بين نثر يتوزّع على قصّة ورواية ومقالة وبحث ودراسة وقصص أطفالٍ وتعريب؛ وشِعر بين منثور وموقَّعٍ وخليليّ… وقد نال جوائز عديدة في لبنان والخارج، ودُعي إلى مِهرجانات ومؤتمرات، غير مرّةٍ. وتنشر له مجلات وجرائد لبنانيّة وعربيّة ومهجريّة. نُجري هذا الحوار الشاملَ معه، حول تجربته كلِّها، بشكلٍ عامٍّ، معرّجين على قصصه للأطفال، وعلاقته بالقارئ، إلى أيّة فئة عمريّة أو ثقافيّةٍ انتمى، ومدى تجاوبه مع هذه الأنواع الأدبية، خصوصًا إبّان احتدام الصّدام، في عصرنا، اليوم، بين الأدب والتّكنولوجيا… معه كان لنا الحوار الآتي:
حدّثنا عن حياتك ونشأتك: محيطًا وأجواء عامّة.
أنا من “وطا الجوز” القرية الكسروانيّة العالية، حيث أطللتُ على الحياة، ودرست دروسي الأولى. نشأت فيها طفلًا فقيرًا حالمًا، بين سهولها والتّلال، وبين أشجارها والأزاهر، تحت سماء شديدة الصّفاء، صيفًا، غزيرة الأمطار، شتاء، محايدة خريفًا وربيعًا، جميلة كلّ آن. كنت منطويًا، لا أختلط بالأولاد إلّا نادرًا لا لسبب أعرفه. لكنّي عرفت ضيعتي شبرا شبرا، وصخرة صخرة، وعين ماء وعينًا، شجرة شجرة. كلّ حبّة ترابٍ تعرفُني وأعرفها… كلّ ما فيها، قريتي، أعرفه ويعرفني. أسمعُه ويسمعني. أحبُّه ويحبّني. نتفاعل معًا، نتكامل.
أمّا أهل قريتي، فكلّهم يعرفون بعضهم. يسهرون عند بعضهم. يتعاونون. خلافاتهم عاديّة، فولكلوريّة، سريعًا ما يتصالحون، وتصفو النّوايا.
ألثقافة للأديب كالهواء للإنسان
أنتم معروفون بالثّقافة الواسعة، حبّذا لو حدّثتمونا عنها، وتاليًا عن مصادر وحيكم.
شكرًا لملاحظتك. ألثقافة للأديب، كالهواء للإنسان. بوساطتها يعيش، بل يحيا حرًّا، واعيًا، مسؤولًا، ناضجًا. ألأديب المثقَّفُ كنز لنفسه ولأدبه ولقرّائه. بهم يغتني، وبه يغتنون. وهي عاملُ ارتقاء فرديّ جَماعيّ. والثّقافة مشروعٌ حيٌّ دائمٌ لا ينتهي! نتثقّف يوميًّا، بالمطالعة، بالاحتكاك بالآخرين، بالخبرة… والأديب، ناثرًا أو شاعرًا، يتحلّى بثقافته، يُخَمّرها في أدبه، ليستفيد الآخرون. وتختلف ثقافة فلانٍ من النّاس، عن ثقافة فلان.
بالعودة إلى ثقافتي، إنّ لها مصادر كثيرة، منها: ألفلسفيّة، والفلسفة إحدى اختصاصاتي الجميلة. قديمة وحديثة. يونانيّة وغربيّة وشرقيّة. لأدبيّة، والأدب العربيّ، أيضًا، هو أحد اختصاصاتي الجميلة. قديمه والمعاصر والجديد الحديث: نثرًا وشِعرًا. ألدّينيّة، وتعود إلى دراستي الدّاخليّة في مدرسة إكليريكيّة، ثمّ إنّ والدي أصبح رجل دين يزينه إيمان عميق وصادق، عاشه معنا بسلام وحكمة. ألاجتماعيّة، وهوايتي علم الاجتماع، قبل أن يكون اختصاصًا أحمله… وألمطالعات الّلانهائيّة، وبالّلغتين: ألعرببّة والفرنسيّة، وبمختلف الفنون: نثرًا (قصص، روايات، نقد، دراسات، بحوث…) وشِعرًا (ملحميّ، غنائيّ…) ولعلّ أكثر الثّقافات رسوخًا في النفس، هي الثّقافة الّتي يحصّلُها المرء بذاته… وقد انعكست ثقافتي، وهذا أمرٌ محتَّم وعفويّ، في أدبيّ كلِّه، نثره والشِّعر… ما يعكس اهتماماتي ويصوّر شخصيّتي… ويجعل أدبيّ قريبًا إلى كلّ قارئ.
ما هو الأدب، بالنّسبة إليك؟
ألأدب فنٌ جميلٌ يعبّر، بالكلمة، عن معاناة إنسانيّة صادقة يوحي ويؤثّر. وما يميّزه عن بقيّة الفنون، هو الوسيلة، وسيلة التّعبير أمرٌ خارجيّ يحمل المضمون: الفكرة والعاطفة. أيّ فنّ جميل هو تعبير عن معاناة إنسانيّة صادقة يوحي ويؤثّر. ألجوهر، إذًا، هو نفسه للفنون جميعِها، والفارق ظاهر مادّيّ هو الّلغة، في الأدب، والّلون والظّلال في الرّسم، والنّغم في الموسيقى…إلخ. وبعض أهمّ ميزات الأدب الإيحاء والتّأثير. ما يوحي هو الخيال بما يأتي من صور ورموز تفرق أديبًا من آخر. ويكون التّأثير من خلال الأسلوب في ترتيب الكلام وحبْك الجُمل، والتّنويع بين الخبر والإنشاء، والتّقديم والتّأخير، وسِوى ذلك… هذه براعة يتميّز بها أديب من آخر.
بين النثر والشِعر
ما يميّز بين نثرٍ وشِعر؟
كثيرٌ كثير! يتغلّب المنطق على النّثر، والتّقريريّة، والتّسلسل، والبُعد عن البَيان. أمّا الشِّعرُ، “فلغتُه البَيان” على رأي أرِسطو. ويتغلّب الخيال، إذًا الصّور، والموسيقى، والعاطفة… على الشِّعْر. من ثمّ الموضوعات. فموضوع الشِّعرِ وِجدانيٌّ، دومًا، ذاتيٌّ بامتياز. يعبّر فيه الشّاعر عن انفعالاته وتأثُّراته وهواجسه وهمومه، على أنّه مركز الكون! لَكأنّما هو الطّفل الدّائم، والمراهق الدّائم! وموضوع الّنثر غيريّ بامتياز. فالكاتب يكتب لينقل فكرة، ليعالج مشكلة، ليؤرّخ حدثًا، ليُصلح آفة، ليشرح فلسفةً… ممّا لا علاقة له بالعاطة ولا بالخيال ولا بحُسْن البَيان؛ لذلك فأسلوب النّثر، بعامّة، عاديّ، سهل، واضح، بعيدٌ من الإيقاع، إجمالا، يكاد يخلو من صور البَيان، إلّا ما جاء منه عفو الخاطر. وهذا قابل للنّقاش ولكن في حديث آخر، لئلّا نتجاوز التسعمئة كلمة المحدَّدة لحوارنا هذا.
كتبتم النّثر وكتبتم الشّعر، فأين تجدون ذاتكم أكثر؟
أجد ذاتي فيهما معا، وإلّا لم أمارسهما! إنّي لا أحذف ذاتي المفكّرة بمنطق، عن ذاتي الحالمة بعاطفة. لا يعني هذا أنّي موجودٌ فيهما بالقدر نفسه. يجوز. ألنّثر تشريح لمجتمع، لعادات، لتقاليد,,, تأريخ، مذكّرات، نقل أخبار… بينما الشّعر ذَوبُ. فيهما أنا أرتاح بالمقدار نفسِه. إنّ الإنسان عقل وعاطفة معا.
ما الشِّعرُ، بالنّسبة إليك؟
لا يمكن تحديد ما هو غير مادّيّ! مع ذلك جرت، ومنذ الفلسفة اليونانيّة، محاولات كثيرة لتحديده، قام بها فلاسفة ومفكّرون وأدباء وشعراء… فتعدّدت وجهات النّظر، وجاء بعضها مناقضًا لبعضها الآخر… بما في ذلك محاولات العرب قدماء ومعاصرين، وتفاوتت بين ما لا قيمة فنّية له كقول أحدهم: “ألشّعر كلام موزون مقفّى”، وبين ما هو عاطفيّ كتحديد نزار قباني: “ألشّعر قنديلٌ أخضر”، أو “”ألشعر كهربةٌ جميلة!” وما هو طَموح جدًّا كاعتبار اشّاعر خليل حاوي أنّ “الشّعر فِعْلُ نبوءة!” ولكن، إن كنّا واقعّيّين لقلنا: إنّ الشِّعر فنّ التعبير الجميل، بالكلمة والإيقاع والصّورة والقلب، عمّا يغلي في وِجدان الشّاعر…
كيف ترى حاله اليوم؟
كحالة الفنّ، إجمالًا. أيّ فنّ إنتاج إنسان مفقّف، فهل ترين ثقافة، اليوم، عند “شعراء” هذا الزّمن، وبخاصة، “شاعراته”؟ أرى أن تعفيني من الإجابة.
هل ترى أنّ الأدب سيصمد بوجه هجوم التّكنولوجيا الكاسح؟
أرى أن نعم، وبجرأة ووضوح! لكلّ نتاج فكريّ ناسُه. لن تجدي جيلًا كاملًا بعقل من دون عاطفة، ولا جيلًا كاملًا بعاطفة من دون منطق! ألتّكنولوجيا في خدمة الإنسان لا العكس. يستحيل إلّا أن يكون الأدب فنًّا جميلًا، راقيًا، يسمو بالإنسان… بينما قد تنقلب التّكنولوجيا إلى “مرضولوجيا” إن هي سيطرت على الإنسان فقيّدته!