تجاوز مركز عصام فارس للشؤون اللبنانية أمس المسائل والقضايا السياسية في أنشطته الدورية. ففي رحاب المركز جمعت الأديبة والشاعرة اللبنانية المقيمة في الولايات المتحدة مي الريحاني جمهوراً غفيراً من الشعراء والأدباء وأصدقاءها ومحبينها على نقاش فكري حول كتابها الذي صدر بالإنكليزية “ثقافات بلا حدود”، والذي تحدث عنه وعن عصارة تجربتها وفكرها الأديبة والناقدة في صحيفة “النهار” مي منسى والشاعر والأديب هنري زغيب.
زغيب الذي وصف مي الريحاني بالمواطنة العالمية لتجاربها في العمل في أكثر من أربعين بلداً في أوروبا وإفريقيا وآسيا والتي ركزت فيها على تمكين المرأة وتفعيل دورها في المجتمع، قال إن الريحاني كرست نفسها وفكرها لحوار الحضارات الإنساني انطلاقاً من انتمائها لبلدها لبنان الذي هو أرض اللقاء والحوار، بعدما وعت منذ طفولتها تفاعل الثقافات وأهمية تجاوز صراعات الهوية والمذهبية.
منسّى من جهتها قالت إن كتاب “ثقافات بلا حدود” هو مدرسة في كل فصل من فصوله درس لعالمٍ أفضل، مشيرةً إلى تأثير عصر لبنان الذهبي في الخمسينات والستينات والجو الأدبي في عائلة الريحاني على وعي مي وتجربتها، فضلاً عن معايشتها الحركة النسوية اللبنانية التي عملت لإنهاض المرأة اللبنانية من كبوتها.
أما الريحاني فشددت على أن دافعها الأساسي لإصدار هذا الكتاب كان من أجل تعريف الغرب والقارئ الأميركي على الوجه النير من تاريخ لبنان في التعدد وحوار الحضارات وفترته الذهبية كوطن مميز في الشرق يرتكز على ثلاثة أقانيم هي الحريات والتقاء الحضارات والديموقراطية. ولفتت إلى الدافع الإنساني الذي هزّها في أسفارها المستمرة ومعاينتها واقع المجتمعات والأفراد الصعب والمأساوي في كثير من الدول.
منسى
الأستاذة مي منسى قالت إن كتاب “ثقافات بلا حدود” ليس استراحة جندي أدى واجبه في ساحات القتال ولا رواية من نسج الخيال، بل أن القلم فيه يقرب المسافات ويلغي الغياب، لململت فيه الذكريات وجمعتها في صفحات عطشى إلى قلم يغمس ريشته في دم الحياة، لأن مي الريحاني أدركت أنها منذورة لمهمة رسولية كلها تحديات، وهي المتشوقة لتجاوز الحدود واكتشاف العالم.
ولفتت إلى التشجيع الذي لقيته الريحاني من صحيفة “النهار” وروادها في فتح الصفحة الثقافية أمام قلمها، وإلى تأثير الجو المحموم بالثقافة والادب في الستينات على وعي الاديبة، إضافةً إلى تأثير الجو العائلي المتميز بالادب الرفيع.
وقالت منسى إنَّ انتقال الريحاني إلى واشنطن كان ولادة ثانية لها، وإن جغرافيات العالم الثالث بمآسيها وبؤسها وافتقار بناتها إلى الكتاب ونسائها إلى الحقوق الإنسانية البديهية نادت الريحاني لأن المخزون الذي تربت عليه صار مادة نضالها وهدفاً إنسانياً لوجودها، فكانت أغصانها تهفّ إلى عوالم تئن فيها المرأة تحت قرون من البؤس والجوع والجهل، ورفضت أن تكون النعم التي تلقتها سدوداً بينها وبين الآخر.
زغيب
الأستاذ هنري زغيب استعرض نشأة مي الريحاني العائلية والمهنية، فقال إن الريحاني نشأت في بيت يشع بالادباء والشعراء والمفكرين العلمانيين المنفتحين، وإنها وعت منذ طفولتها تفاعل الحضارات وتقبل الآخر المختلف. وأضاف انها عملت لتفعيل دور المرأة في المجتمع وأسست وساهمت في كل ما يفعل مشاريع تعليم المرأة وتطويرها في أكثر من أربعين بلداً، وبسبب هذه التجربة الكبيرة اكتشفت أن ما يجمع بين هذه الثقافات أكثر مما يفرِّقها، وأن قبول الآخر بثقافته وحضارته يساعد في إبعاد الحروب وتقريب السلام.
ووصف زغيب الريحاني بالرحّالة الرسولية التي عملت لتعليم المرأة وتمكينها في أكثر مجتمعات الدنيا فقراً ويدائية وجهل حقوق، ونذرت نفسها لهذا الهدف. وقال إنها رسمت في كتابها الجديد خطاً فصيحاً لتجربتها في الدول النامية بتأسيسها برامج تربوية لتعليم المرأة وتحويلها قوةً اجتماعية ساطعة بتعزيز حقوقها وتأمين تطورها وإسهامها في تحول مجتمعها نحو الأفضل.
وختم زغيب بالقول إن “السنونوة لا تتعب من غجرية الترحال” وإن الريحاني تدرك أن الطريق إلى واشنطن ستؤدي بها لاحقاً إلى بيروت، وإن ترحالات الأديبة والشاعرة اللبنانية افتراضية في الزمان وواقعية في المكان وذابت فيها المعالم فهي ثقافات ولا حدود، فرسمت الصبية بحلمها مساحة احترافها منذورة لخدمة المرأة تحت كل سماء فباتت مواطنة عالمية.
الريحاني
الريحاني قالت إنها أرادت من كتابها إخبار الغرب أن بقاء لبنان كمساحة فكرية للحريات والتعددية الثقافية والديموقراطية هو الضمانة الوحيدة أو الخميرة الوحيدة لهذا المشرق كي لا تصبح اوطانه مبنيةً على لون واحد ودين واحد وثقافة واحدة. وشددت على انه ساعة تمحى التعددية الدينية والثقافية والحضارية يخسر الإنسان قدرته على محبة الآخر وعلى احترام الآخر وتقديره والحوار الحقيقي معه.
وأشارت الريحاني إلى أنَّها أرادت أن يعرف القارئ الغربي أن لبنان في الخمسينات والستينات كان يحاول أن يحتضن جميع الحريات في الفكر والنشر والصحافة والتظاهر، وأن مسيرة لبنان مبنية على محاولة بناء نموذج لحضارة مميزة في المشرق لأنها مبنية على التعددية الحضارية. وأضافت أنه عملت من أجل ان يسمع الأميركي صوتاً من لبنان يكلم عن هذا الوطن الصغير الذي يحملُ رسالةً مغايرة وكبيرة في المشرق تعترف أن لبنان هو مساحة فكرية بقدر ما هي جغرافية تتنفس فيها الحريات والتعددية وتلتقي فيها الديانات والثقافات على جسرٍ واحد، للمرأة فيها الدور الريادي والفعّال ويتجرأ فيها الأدب والشعر على كسر التقاليد الفكرية. وأكدت أن لبنان سيبقى مدافعاً عن أقانيم الحريات والتنوع والتفاعل الحضاري وأنه عندما سينتهي ما وصفته بالكابوس الحالي في المشرق سيستطيع لبنان أن يعيد تمكين هويته المتميزة إن صان أقانيمها.
ولفتت الريحاني إلى دور المناخ الفكري في عائلتها على تنشئتها وعلى عملها لتحقيق الأهداف الإنسانية التي آمنت بها. وقالت إن مناخ العائلة كان مبنياً على أسس عدة أبرزها المساواة بين المرأة والرجل وعدم التمييز بين الأديان السماوية، وأنَّ التنوع مصدر غنى، إضافةً إلى احترام الآخر وخاصة الآخر المحروم واعتبار خدمته واجبٌ على كل إنسان.
وختمت الريحاني بالتشديد على فهم الآخر والتفاعل معه وعلى أن الخيط الجامع بين البشر يتخطى الأديان والثقافات والأعراق لأن الفروقات سطحية أمام العمق الإنساني. ورأت أن الثقافات متداخلة ولا حدود لها، مشيرةً إلى أن كلما تعمقت الشعوب في القواسم المشتركة فيما بينها واعترفت بها واحترمتها، كلما اقتربت من المواطنية العالمية.