الأديب جان كمَيد
من الرِّجال مَن يترك، عند رحيله عن هذه الحياة، وصيَّةً لأولاده يرسمُ لهم فيها خطوطَ سلوكهم الذي
يريدُهم أن يسيروا عليه، ومنهم مَن يترك لهم مثالَه الشخصيّ، أي نهجَه وسيرته في سحابة عمره، فيكون لهم نموذجًا يُحتذى، وأبلغَ من وصيَّة مكتوبة، لأنَّ هذا المثال كان واقعًا متجسِّمًا في الحياة، والتأثُّر بالشاهد الحيّ هو أقوى من التأثُّر بآداب السلوك التي نقرأ عنها في كتب التربية.
عائلة متري نعمان وزوجته أنجليك يصحُّ أن تكون قدوةً في هذا المجال، أي صورةً عن العائلة المثاليَّة التي أثبتا من خلالها عدم صحَّة العُرف الشائع بأنَّ الكمالَ الإنسانيَّ هو مَثلٌ أعلى يُنشدُ ويُسعى له، ولكنَّه لا يُبلَغ، إذ يمكن ظهور حالات استثنائيَّة يتحقَّقُ فيها كمالُ السيرة الشخصيَّة لدى أناس توفَّر في ذواتهم استعدادٌ فطريٌّ لبلوغ درجة من الرِّفعة في تعاطيهم داخل العائلة وخارجها، تسمو بهم إلى مرتبة بعيدة المُتناوَل عن سواد الناس.
والنَّجل الوفيّ، ناجي نعمان، عندما جمع سيرة الحياة المشتركة لوالده ووالدته في كتاب*، لم يقصدْ من ذلك تخليدًا لذكرهما أو تمجيدًا لشخصَيهما، بل هدف منه أن ينفعَ بمثلهما مَن يُقدمون على الحياة الزوجيَّة بما فيها من احتمالات اختلاف الأمزجة والأذواق بين الشريكَين، وتعارض المفاهيم، والتباين في مواجهة المشاكل والصعوبات.
ولئن كان والداه لم يأخذا منحاهما في الحياة عن أحد، فلا يمنع ذلك من أن يُعطياه للآخرين درسًا يفيدُ عن إمكان تخطِّي الواقع البشريّ كما هو حاصلٌ إجمالاً إلى نوع من الاندماج بين الزوجَين يحقِّق وحدتهما قلبًا وروحًا، فلا يبقى من فارق بينهما إلاَّ ثنائيَّة الكيان الجسديّ، والخصائص الحميمة لكلٍّ منهما التي لا ينشأ عنها تنافرٌ وتصادم.
إذ لا يقومُ هذا الاندماج على ذوبان الواحد بالآخر إلى درجة التماهي بينهما وفناء شخصيَّتهما الخاصة، بل على إيجاد “جامع مشترك” يلتقيان عليه مهما كانت الفوارق الأصليَّة في الطبع والنشأة، فضلاً عن طبيعة الرجل المختلفة في أساسها عن طبيعة المرأة، وفضلاً عن أنَّ لكلِّ إنسان “فرديَّته” التي لا بدَّ أن يتميَّزَ بها عن سواه.
فكانت بطولة متري نعمان وأنجليك بأنَّهما استطاعا التكيُّف مع واقعهما الجديد كشريكَي حياة أسرة واحدة، ونجحا في هذا التكيُّف بالنمط الذي اعتمداه في العلاقة بينهما.
فالأستاذ متري، في تعاطيه مع امرأته ومع أفراد أسرته عمومًا، التزم لياقةً لا تندرجُ في إطار “بروتوكول” شكليٍّ كما هو السائدُ في المجتمع، بل صدر فيها عن سجيَّة فطريَّة جعلته يتأنَّق في هذا التعاطي إلى درجة الرَّهافة، ولو كان ذلك مع أقرب الناس إليه.
فإنَّ “رفع الكلفة”، و”وحدة الحال”، لا تعنيان عند متري نعمان إرخاصَ العلاقة الأسريَّة إلى حدِّ النزول بها إلى “الخوش بوش” المُبتذَل، بل حرص على صون حرمة هذه العلاقة والإبقاء فيها على رفعة بوادره وتصرفاته. لقد أبى أن تكونَ زوجته ويكون ولده “همشريَّته” بحسب التعبير الشعبيّ الدارج، بل أوجب على نفسه احترامهم كالغريب سواء بسواء.
وأنجليك، وإن كانت ذات حميَّة تغلي في عروقها على غير ما هو عليه زوجها من رزانة وهدوء، لم تدَعْ هذه الحميَّة أن تتحوَّلَ إلى عصبيَّة تشتُّ بها عن الرقيِّ والنبل في الأخذ والعطاء.
والنَّجل المؤلِّف يعترف في كتابه بأنَّ الفوراق بين أبيه وأمِّه في المضمون جاءت أعمق ممَّا هي عليه في الشكل، فإنَّ حصان الوالد الشاعر والأديب جمح إلى حيث بات يصعب تلاقيه مع فرس الوالدة الواقعيَّة والعمليَّة. فالوالد يجد في التزامه نطاق الأسرة ما يحدُّ من طموحاته التي لم يكن ليحدَّ منها وجودُه حرًّا طليقًا، بينما أنَّ إنشاء أسرة بالنسبة إلى المرأة هو مرمى طموحها بالذات. لذا، يتابعُ المؤلِّفُ، مثَّلت انطلاقات متري وأولويَّاته، وانطلاق أنجليك وأولوياتها خطَّين متوازيَين لا يلتقيان، غير أنَّ الأيَّامَ تكفَّلت، في إطار تدبير شؤون الأسرة التي اجتمعَ الاثنان على تأمينها، بالتقريب بين عمادَي البيت.
وقد أشرنا أعلاه إلى هدوء طبع متري ورزانته في مقابل حميَّة قرينته وفوران دمها، فنسارعُ إلى القول بأنَّ هذا الهدوء لا يعني أبدًا تساهلاً من جانبه أو ضعفًا. فإنَّ مَن يعرفُ متري نعمان معرفةً وثيقةً يلمسُ لديه صرامةً في الأمور المبدئيَّة لا مساومةَ فيها، وتشدُّدًا في المجال الأخلاقيِّ لا تهاونَ فيه. فالحدود لديه مرسومة بدقَّة، واللُّطف والدماثة لا يجنحان به إلى غضِّ الطَّرف عن أيِّ التواء، أو حتَّى عن أيِّ تجاوز طفيف ولو كان ذلك على سبيل الدعابة والعبث، وهذا من دون أن يتَّخذَ، في الوقت نفسه، صفةَ ربِّ البيت الصَّلف، الذي يتحكَّمُ بعائلته بحسب الطريقة المتوارَثة من القديم التي تفرضُ على المرأة والأولاد الرَّهبة والخوف بدلاً من أن تفرضَ عليهم طاعة الزوج والوالد بدافع تقديره واحترامه.
لهذا ربَّى عائلته على استقامة حُذفت من قاموسها كلمة “انحراف”، وعلى تصلُّب في الحقّ والواجب لا يهادن، ولا يحتمل مناقشة. فمسلَّمات متري نعمان، التي سرت إلى عائلته، هي خياراتٌ نهائيَّة لا رجوعَ عنها مهما تطوَّرت الأجيالُ الجديدة إلى ما يخرجُ من العقليَّة المحافظة التي كانت سِمَةَ السابقين. وليس هذا في عُرفه جمودًا، وتحجُّرًا، بل أنفة من الانحدار إلى ميوعة وخفَّة لا تحفظان للإنسان مقامه ولو ألبسَ ذلك ثوب “التقدُّم” و”التحرُّر”. وهنا تنتصبُ عائلة متري نعمان مرجعًا يُقاسُ عليه التزام السبيل السويِّ أو الحياد عنه، وشاهدًا عدلاً يؤخذُ بحكمه في التمييز بين الصالح والرَّديء.
*****
(*) ناجي نعمان، سِفرٌ من سَفَر، الجزء الأوَّل، مع متري وأنجليك، مؤسَّسة ناجي نعمان للثَّقافة بالمجَّان، 2012.