الأديبة هدى عيد
تقوم بنية رواية (الخلدان الصماء) ، للكاتب الشّاب عبد الحكيم القادري والصّادرة عن دار نوفل في طبعتها الأولى عام 2015 في 236 صفحة من الحجم الوسط، تقوم هذه البنية على التقابل الحادّ بين الواقعيّ من جهة والتخييليّ من جهةٍ أخرى، وهما لفظان حاضران بقوّةٍ من خلال كلام الرواي المتبّدل الهوية ( ندى وحياة من خلال المذكرات، والرواي العليم في ما تبّقى من سياق سرديّ يستبطن الأحداث) ، ومن خلال كلام الشخصيات المتعدّدة، والحوارات الدائرة المتنوعة الأطراف.
يقسّم الكاتب روايته إلى ثلاثة أقسام كبرى غير متساوية الفصول حملت عناوين : الجُحر الأول، الجحر الثاني و الجحر الثالث محققاً بذلك التماهي الواضح مع المعنى التعييني لمفردة الخلدان، ومع ما تختزنه هذه المفردة من بعد تضميني يمثل التواري والاستتار عن الأنظار، وكأنما هو يومئ بذلك إلى المجتمعي المستتر الذي تتم مواراته خلف الكثير من المشاهد الهادئة التي قد لا تثير في البداية أياً من الشبهات.
وفيما تغزل الرواية فضاءها السردي في المكان المحليّ بالدرجة الأولى : كفرشوبا الضيعة الجنوبية الحدودية المتاخمة للعدو، مطلةً على الجغرافيّ المهمش يجعل منه الكاتب مادة الروي ( ألقي نظرةً طويلة على كفرشوبا ، على التلال التي تحضنها من الشمال والجنوب والشرق ، على البيادر وشجر الرمان والزيتون واللوز والكرز ، على المغارة الصخرية التي يقول المسنون إنها مسكونة بالجنّ، وعلى سفوح جبل الشيخ التي تنحدر) ص 105، يتم توظيف المكان الخارجي المحلي بيروت ، صيدا ، مرجعيون ، والآخر الدولي كألمانيا أو المغتصب كإسرائيل حاضناً لبعض الأحداث المغذية للحدث الرئيس والضرورية لتأطيره، إذ يرد ذكر ألمانيا مثلاً كمكان التعارف مع العميلة المجندة والتي ستستحيل فيما بعد زوجةً حبيبة لعمر.
وإذا كان المكان بالمفهوم السردي الذي رآه فيليب هامون عنصراً فاعلاً ومؤثراً على الشخصية ، ومحفزاً على بناء الحدث ويدفع به باستمرار إلى مزيد من توليد الفعل ، فإن الكاتب يكون قد تخيّر هذه الطبيعة الحدودية بالذات ليطل من خلالها على مسألة العَمالة لصالح العدو الإسرائيلي، حيث يتقدم وعبر سياق الأحداث منظور العكس والخرق من خلال خطاب الرواية المتمثل على لسان الشخصية الرئيسية عمر ، ومن خلال إبنه إيهود فيما بعد إمتداده الحي السعيد بالتزام خطة والده ، وتعاونه المتحمس معه ومع أمه العميلة أنيتا، مقدّماً بذلك رؤية ثقافية معاكسة للواقع الأيدلوجي العام السائد ، محاولاً التغلغل في فهم أسباب هذه الظاهرة ودوافع شخوصها، مبرزاً بذلك إشكالية العلاقة مع الآخر من صلب التكوين التاريخي للهوية الثقافية الاجتماعية لأصحاب المكان الأصليين.
يظهّر السرد حكاية العلاقة الآثمة التي قامت بين عمر وندى، بالتقابل مع العلاقة المشروعة القائمة بين الزوجين لميا وهلال، هذا التقابل بالشكل سينتفي تماماً من خلال المضمون إذ تكرس الرواية في الحالتين ما هو متعارف عليه في الموروث الثقافي المشرقي من كون الأنثوي دلالة مقترنة طوال الوقت بالضعف وباستجداء العطف من الذكورة القاسية الّلامبررة ظاهريا والمستبطنة عِقداً تاريخية جمة :علاقة ندى بأخيها وبأبيها، علاقة نينار بعمر الذي أحبته وسلمته جسدها وحينما طالبته بالزواج ماطلها ، هددته بفضح عَمالته فقتلها ( يضاجعها يطحنها يتخذها رهينةً لخياله الخصب ، ثم يفرغ في جسدها نار أهوائه) ص 24… كذلك هو الأمر بالنسبة لعلاقة ندى به ، فالحديث عن أي شخصية من شخصيات الرواية يغدو إطلالاً على شبكة من العلاقات المتعارضة التي تنخرط الشخصية فيها وتفعل عبرها ، وهي تعارضاتٌ تلد باستمرار تواتراً لعلاقات الفقر والغنى، النزاهة والخسّة، الذكورة والأنوثة، الإعلان والخفاء، الوطني والخيانة،الحب والموت…الداخل والخارج…
رواية الخلدان الصماء هي رواية الفقر والتمزق العاطفي والجسدي وفقدان الهوية، ومحاولة البحث عن خلاص ، حتى ولو كان خلاصاً مغلوطاً مغايراً للثقافي والقيميّ، وهذا ما كرّس المأساوية في مصائر شخوصها سواء كان ذلك على الصعيد الخاص : موت سوسن إبنة لميا وغيبوبة لونا وسجن هلال المنحرف، أوعلى صعيد المأساة العامة المتمثلة بوصول العميل الخائن عمر الخادم لمصالح الصهيونية إلى سدة النيابة، وعيشه بين المواطنين متستراً بسيرة المواطن الصالح القويم الذي يباشر المشاريع التحديثية للمناطق التي تغيب الدولة عنها، وهي إلى ذلك رواية تكشف بدون أدنى شك عن ولادة موهبة شابة تبشر بعطاء روائي متقدم في ميدان هذا الفن الأدبي الرائد.