مازن عبّود
اختتمت اعمال المجمع الانطاكي المقدس لكنيسة الروم الأرثوذكس وعاد كل حبر إلى أبرشيته. ما اقرّ من أمور، وما لم يقر، أثارا عاصفة في فنجان كنيسة العرب.
إني اعتقد بأنّ المجمع في دورته الحالية بدأ يضع يده على جرح الناس أكثر. دورة ترافقت مع أنشطة أهمها حفل “إطلاق المركز الإعلامي”، الذي اتى ملفتاً جهة التوقيت والمدعوين والكلمات والموسيقى والاضاءة والفيلم وغيره.
البعض اعتبر أنه من الممكن تحويل الأموال التي تصرف على الأنشطة المكملة لمساعدة المنكوبين، إلا أنّ الإعلام ضرورة في هذا العصر، وما عاد نشاطاً مكملا، وشبه اجتماع مؤمنين من كل الابرشيات تحت عباءة كبير الأحبار، ولو لمرة في السنة، يبقى هدفا نبيلا يعمل لأجله.
الرسالة التي ظهرها الحفل هي أنّ ثمة قضايا نبيلة وسامية مازالت تجمع الناس في المشرق. والكنيسة هي الإطار التي من خلالها تعزف السمفونية السورية النشيد الوطني اللبناني، وتنقل (MTV) هموم كل إنطاكية الى كل المشرق. أضف الى ذلك بهاء صورة كبير الاحبار، محاطاً بكل اخوته من بيروت وطرابلس والجبل وصولا الى جبل العرب وحماه وحمص والمغتربات بالإضافة الى حبر حلب الحاضر في الكلمات والتنهدات. صورة ضرورية لإزالة الشكوك والأوهام لدى الكثيرين. ويمكن تسجيل ملاحظة من ضمن سلة ملاحظات الا وهي عدم التركيز في الحفل بشكل واف على اهداف المركز، ومهماته وبرنامجه. الا انّ المهم كان رسالة الحب الخاشعة، التي طلعت من احشاء القيثارات والابواق والطبول الى كل العالم.
هذا كان في النشاط المرافق، اما في المجمع ومداولاته، فالمميز كان هذه المرة، بدء الكلام عن اصلاحات في الكنيسة الأرثوذكسية التي تحتاج الى إعادة تحديد مفاهيم السلطة والطاعة وادوار العلمانيين، واعادتهما الى دائرة الخدمة وسلطة المحبة.
أما في مقررات المجمع، فإني اتوقف أمام ثلاث نقاط:
أولها، ملف أزمة قطر مع كنيسة اورشليم. مما لا شك فيه أن الأزمة تفجرت اليوم الا انّ لها أصولها. واصولها بحسب رأيي انّ البطريركية المقدسية غير قادرة ان تتواصل مع شعب لا تشاطره اللغة والهموم والقضايا. وقد هجرها أهلها في الوطن الى المغتربات، وفي مغترباتهم التحقوا طوعاً بأنطاكية التي تشاطرهم قضاياهم همومهم وتحكي لغتهم، وذلك من دون دعوة من أحد او عن سابق تخطيط. فكنيسة اورشليم، وبحسب رأيي كما في عيون الكثيرين، قد أضحت، واقعياً، متحفية تزخر بالطقوس والعبادات والاكليروس الذي ينتمي اساقفته الى جمعية القبر المقدس دون غيرها، وقد فرّ منهم معظم الشعب.
نقمت اورشليم على انطاكية، وتفجرت نقمتها وصارت مادة للعب الدول، مع تقلب المناخات السياسية في الكثير من الدول العربية. فدخلت قضية الخلاف التاريخي، ما بين البطريركية العربية اللون والطعم والانتماء والارثوذكسية الجذور والبطريركية الارثوذكسية المؤتمنة على الأراضي المقدسة التي راحت تتقلص بفعل البيع وتغرّب الناس، في بازارات الحرب على المنطقة.
سلخت قطر من نطاق إنطاكية وأعطيت لاورشليم، مسألة شكلت رسالة إلى كنيسة العرب الارثوذكسية التي يلومها البعض على عدم وقوفها الى جانب المقموع والمظلوم لحساب الحاكم، وهذا اتهام غير دقيق البتة، ويساء فهم مواقف الكنيسة في هذا الإطار. فالحروب الدائرة هناك اثبتت انّ للموضوع جوانب أخرى، لا تتعلق حصرا برفع الغبن وحقوق الانسان. الا انّ الكنيسة، في كل مكان، تبقى مدعوة الى الوقوف الى جانب المظلوم والمقهور والمعذب والمظلوم والمشرد، والى نبذ العنف وإدانة الإرهاب، وهذا حال غالبية الشعب السوري الذي يجد بلده اليوم ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، ومن هنا ضرورة البحث عن حل سلمي للازمة، وهذا ما دعت وتدعو اليه بطريركية كنيسة انطاكية الارثوذكسية.
لقد اضحى جليا بانّ الخلاف مع البطريركية المقدسية تحوّل بفعل مقتدر الى اداة من ادوات الحرب السياسية التي تستعمل لإرضاء هذا وتطويع ذاك، وقد يفهم بأنه يترجم رغبة لدى بعض اللاعبين لسحب المرجعية الروحية للمسيحيين العرب من بطريركية انطاكية. الا انّ حساب الحقل لن يطابق حساب البيدر في هذا الإطار.
ثانيها، استقالة مطران زحلة التي لكانت قد أتت طبيعية لو انّ المؤتمر الصحافي لأقطاب المدينة لم يعقد. وقد بدا في الإعلام أنّ اقطاب المدينة أسقطوا مطرانها في السياسة والشارع قبل ان يستقيل. وهذا لا يعكس حقيقة الوضع، فقد عمل البطريرك وبعض آباء المجمع على إقناع المطران وفريقه بضرورة التنحي قبل المؤتمر الصحافي لنواب زحلة. ما جرى يضغط باتجاه إقرار سن تقاعدي للأحبار، وإيجاد حل يضمن كرامتهم، إلا انّ المشكلة ان المجمع (الهيئة التشريعية في الكنيسة) يتألف بغالبيته من احبار تجاوزت أعمارهم أي سقف عمري قد يتم اقتراحه للتقاعد.
ثالثها، فتح المجمع كوة صغيرة للغاية في الحائط الذي حجب عن كنيسة انطاكية الإصلاحات لزمن غير قليل. وما احوجنا الى إزالة الجدران كي يدخل العلمانيون الى صحن الكنيسة ويعيدوا اليها التوازن المفقود!!! وتبقى الأيام المقبلة خير مخبر عما إذا كان هذه الدورة محطة في تاريخ انطاكية، او غير ذلك.
وإني أدعو ساسة كنيسة الروم الأرثوذكس أن يعملوا بشكل مواز الى استعادة ملف الأحوال الشخصية من المحاكم الروحية في كنيستنا ويعيدوه الى الدولة. فيترك للكنيسة سلامها، وتحفظ قدسية الكهنوت، فلا يتم جرهم الى مستنقعات آسنة.
كثرت وتعقدت الملفات، وبدأت تغيب وتنحسر الكثير من القامات، ومن الأكيد بأنّ انسانا بمفرده لا يستطيع حملها، مهما كبرت هامته وقدره. لذا، فالمطلوب ان نتخطى جميعا ضعفنا ونتزود بالتواضع والمحبة والانفتاح وقبول بعضنا البعض. الكنيسة هي للمسيح، والسلطة فيها هي سلطة المحبة حصرا، وتحدينا الاكبر في هذه الظروف المصيرية ان نثبت باننا اهل المحبة.
نهاية، أخشى ان تحتل المؤسسات مكان المسيح، فيتشرذم الناس، ونقع في مطبات المحسوبية وخدمة رأس المال على حساب الفقير. واني اسأل من يعمل في الضعف ان يعمل فينا، وينتشلنا ويقوينا كي نكون شهوداً على المحبة والانفتاح وقبول الاخر والتسامح، في هذا العالم الغارق في الظلم والعنف والالغاء والتطرف..