الباحث خالد غزال
التاريخ العربي سلسلة هزائم متوالية شاملة، عسكرية، اقتصادية، وثقافية، يؤرَّخ لها بالعام 1948 عندما اندحرت الجيوش العربية أمام العصابات الصهيونية، فضاع قسم من فلسطين، ثم تلاحقت الهزائم، الى أن وصلت المجتمعات العربية الى الهزيمة الكبرى المتحققة في اكثر من بلد عربي منذ اكثر من اربع سنوات.
هزيمة تدمر هذه المجتمعات، وتطلق وحوش الطوائف والمذاهب فتمعن فيها تقطيعاً وقتلاً وتخريباً. هزيمة تلتهم نارها المنطقة العربية في مجملها. واذا كانت بعض المحطات قد شهدت على انتصارات فعلية، فإن سياسة الانظمة قد حولتها الى هزائم.
ستظلّ هزيمة العام 1948 الهزيمة الأم التي تتالت بعدها الفجائع العربية. قيام دولة اسرائيل على قاعدة المشروع الصهيوني، سيظل يشكل الخطر الأكبر على المجتمعات العربية وعلى كياناتها. نحن أمام مشروع استعماري استيطاني لا تتوقف طموحاته عند احتلال أراضي فلسطين وتهجير شعبها، بل يتجاوز الى الهيمنة على المنطقة العربية وتفتيت كياناتها، ناهيك بالدور الذي تضطلع به إسرائيل كشرطي للهيمنة الأميركية والأوروبية على المنطقة. اما هزيمة الجيوش العربية، فلا تزال تشكل وصمة عار للمجتمعات، حيث اندمج التواطوء العربي على الانسحاب مع التآمر الاستعماري على إقامة الدولة العبرية على حساب الشعب الفلسطيني.
الهزيمة الكبرى الثانية هي هزيمة حزيران 1967، التي تتوّج انهيار مشروع قومي عربي كانت مداميكه ووعوده الديموقراطية ومشاريعه الاقتصادية تبنى على امتداد عقود، معطوفةً على حشد الطاقات من أجل استعادة فلسطين وتحريرها من العدو الصهيوني. كانت هزيمة حزيران هزيمة مجتمعية شاملة للمشاريع العربية، عسكريا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وفكريا. ما تشهده المجتمعات العربية اليوم من انهيار بناها واندلاع الحروب المذهبية فيها، هو من تداعيات تلك الهزيمة، التي عمّقها امتناع الأنظمة عن الاعتراف بحقيقة ما حصل ومحاسبة نفسها، بل سعيها، ومعها أحزاب قومية وشيوعية، الى تحويل الهزيمة الى انتصار، لأن العدوان الاسرائيلي عجز عن إسقاط الأنظمة التقدمية.
في العام 1973، أحسّ العرب خلال حرب تشرين بطعم الانتصار، عندما اخترقت الجيوش المصرية خط بارليف وعبرت قناة السويس الى سيناء. سدد الجيش المصري ضربة كبرى للجيش الاسرائيلي أذهلت القيادتين الاسرائيلية والأميركية. وكاد الجيش السوري ان يستعيد مرتفعات الجولان. لكن خطط القيادة المصرية الهادفة الى تحريك المفاوضات فقط، وتردد القيادة السورية في الجولان، جعلا النصر يتحول الى هزيمة. أفادت اسرئيل من هذا التردد، وشنت هجوما معاكسا وصل الى داخل الأراضي المصرية، كما شنت هجوما معاكسا في الأراضي السورية، وحققت انتصارا في الجانبين. هكذا تبخر حلم النصر واستعادة الكرامة، وعادت الغطرسة الإسرائيلية لتقول للعرب انكم محكومون بالهزائم ولا مجال لتحقيق انتصارات لأنكم لا تعرفون الحفاظ عليها عندما تتوفر لكم.
في العام 1982، اجتاحت اسرائيل لبنان واحتلت العاصمة بيروت. سددت اسرائيل هزيمة لقوى الإعتراض الباقية في المنطقة العربية. سبقها النظام السوري في العام 1976 عندما سدد ضربة للمشروع الوطني الذي قادته الحركة الوطنية اللبنانية والذي كان المشروع الوحيد الذي كان في مقدوره نقل لبنان من دولة الطوائف الى الدولة الوطنية، وتحقيق الاندماج بين مكونات الشعب اللبناني. كانت هزيمة حزيران 1982 هزيمة للعرب جميعا وليس للشعبين اللبناني والفلسطيني. وصمة عار، ان يقف العرب متفرجين على العملية الاسرائيلية، بل شامتين ومحرضين، مثبتين عجزها وخنوعها.
في العام 2000، تحقق للبنان انتصار، بانسحاب الجيش الاسرائيلي من أراضيه من دون قيد او شرط، متوجاً عقوداً من النضال الوطني بدأ أواخر الستينات من القرن الماضي، وخاضته المقاومتان الوطنية اللبنانية والفلسطينية، ثم استكملته المقاومة الإسلامية. كان يمكن هذا النصر ان يشكل مدخلا لإعادة توحيد اللبنانيين وبناء دولة وطنية على قاعدة تسويات ديموقراطية، واقفال ملف الحروب الأهلية الدائمة، لكن القوى التي تحقق هذا التحرير على يد مقاوميها، أجهضت هذا النصر عندما وضعته في خدمة مشروع مذهبي مرتبط بمشاريع اقليمية، فبات النصر ملك النظامين السوري والإيراني. وبدلا من ان يكون مناسبة توحيد لبناني، عاد ليتحول عنصرا في الإنقسام وفي استكمال الحرب الأهلية الطائفية المذهبية.
في العام 2006، تعرض لبنان الى حرب كان أداتها المباشرة “حزب الله”، وقادها مشروعان أراد كل منهما ان يصفّي حساباته مع الطرف الآخر على الأرض اللبنانية: المشروع الإسرائلي – الأميركي، والمشروع السوري – الإيراني. تسببت الحرب في كارثة كبرى للبنان وشعبه، فقُتل نحو ألف وخمسمئة مواطن، وجُرح نحو عشرة آلاف، وتهجّر نحو نصف مليون، ودُمِّرت أجزاء كبيرة من البنى التحتية. كانت حربا مجانية دفع لبنان ثمنا ضخما لاندلاعها، انتهت بحصار بحري وبري، وفرض حل قضى بدخول قوات دولية الى لبنان ومنع وجود قوات “حزب الله” في قسم من الجنوب القريب من اسرائيل. لم تكد الحرب المدمرة تنتهي بهذه النتائج، حتى خرج “حزب الله” ليعلن للبنانيين انه حقق نصرا إلهيا على اسرائيل، فيما لم يخرج البلد من صدمة هزيمة مدمرة أصابته. بدلا من الاعتراف بالخطأ الذي ارتكبه الحزب في التسبب بهذه الحرب، وإجراء محاسبة لمن اتخذ القرار، هرب الى تلفيق الهزيمة وتحويلها انتصارا.
كانت حرب تموز هزيمة كبرى للحزب وللبنان في الوقت نفسه، فقد نقلته من الحدود مع اسرائيل الى الانغماس في وحول الحرب الأهلية اللبنانية، بعدما انتهت حربه مع اسرائيل. لعل حرب تموز ونتائجها تشهد على التطورات التي دفعت الحزب في ايار 2008 لاستخدام قواته في حرب أهلية داخلية، وهي أيضا جعلته ينخرط في الحرب الأهلية السورية دعما لنظام بشار الأسد، والغرق في متاهاتها.
ما تشهده المنطقة العربية اليوم من انفجار في بنى مجتمعاتها ومن حروب أهلية ومذهبية، هو التتويج الأكبر للهزائم العربية. هذه الانفجارات الدائرة اليوم في بعض الدول العربية، المتوقع لها ان تمتد وتطول، هي التعبير عن الفشل الذريع لمشروع الحداثة ولبناء الدولة ولتحقيق الاندماج الوطني والاجتماعي، وللعجز عن استعادة الأراضي المحتلة. هل هناك هزيمة اكبر من ان يفقد الفرد العربي هويته الوطنية والقومية، ويصبح انتسابه الأساسي الى الطائفة والمذهب، وان يستبدل الولاء للوطن بالولاء للعصبيات العشائرية والقبلية والطائفية؟ انه النفق المظلم. بل الغرق في فوضى كيانية لا قعر لها.
****
(*) النهار – الملحق 4 يوليو 2015