في الأزمة اليونانية

مازن ح. عبّود

 مع استفحال الأزمة اليونانية، وفرض الترويكا (البنك المركزي الاوروبي والمفوضية الاوروبية mazen-aboud-1وصندوق النقد الدولي) بقيادة ألمانيا شروطا قاسية على اليونان أكثر بكثير من قدرتها على التحمل، ذكّرني اقتصادي مخضرم بواقعة استقالة “جون كينيس” من الوفد البريطاني المفاوض في معاهدة السلام في فرساي على اثر انتهاء الحرب العالمية الاولى، احتجاجاً على الشروط القاسية التي فرضتها دول التحالف على المانيا المهزومة وقتها.

وقد كتب ايقونة الاقتصاد الحديث “كينيس” كتابه الشهير “الآثار الاقتصادية للسلام” في العام 1919، الذي اضحى اساسا لمعاهدة بريتون وود ما بعد الحرب العالمية الثانية.

التاريخ عاد فأثبت انّ “كينيس” كان على حق، فانهيار الاقتصاد الالماني وعدم قدرة الدولة المهزومة على الوفاء بتعهدات فرساي اوصل هتلر الى السلطة في المانيا في العام 1930. فأسّست معاهدة فرساي واقعيًّا لحرب جديدة. طبعا ليست اليونان المانيا المنكسرة بالكلية، ولا شروط الترويكا هي نفسها بنود معاهدة فرساي. انما ثمة تشابه ما بين الحالتين لا يمكن انكاره البتة. فـ “تسيبراس” مثلا ما كان قد وصل الى الحكم لولا الوضع الاقتصادي المنهار في اليونان، وعدم قدرة اليونانيين على تسديد الديون بهذه المعدلات من الفوائد المرتفعة . كما انّ مشهد ارتال المتقاعدين اليونانيين الواقفين لساعات امام البنوك لتحصيل حفنة أوروات لا يختلف عن مشاهد الالمان امام المصارف بعيد انتهاء الحرب الكونية. هذا وقد تعدّت معدلات البطالة في بلاد الاغريق الخمس والاربعين في المئة.

 وامام هذا الواقع المرير نطرح بداية عددًا من التساؤلات:

 اولها، ألن تتخطى تداعيات الازمة اليونانية المستعرة حدود اليونان، فتطال الكثير من البنوك والدول الاوروبية، وتتولّد عنها أزمة تشبه أزمة 2008 في الولايات المتحدة الامريكية مثلا؟ ألا تُعدُّ أزمة اليونان مقدمة لسلسلة أزمات ستطيح حتما بالأورو؟ والى اي مدى يمكن صيانة المساكنة القائمة ما بين السياسات المالية المتناقضة لدول الأورو والسياسة النقدية الموحدة للبنك المركزي الاوروبي؟ ألا يُشكّل انخفاض اسعار الأورو على إثر التداعيات الاخيرة للأزمة اليونانية دليلاً على خطورة استعار الازمة اليونانية وتأثيراتها على مجمل دول الأورو في أوروبا الموحدة؟

ثانيها، ألا تتذكّر ألمانيا كيف صارت نازية؟

 ألا تتذكّر أرتال مواطنيها امام البنوك يحملون أطنانا من عملتها المنهارة، في العام 1929 وبعيد الحرب العالمية الاولى؟grece

ألا تتذكّر انها أُعفِيَتْ من الكثير من ديونها في العام 1953؟

لماذا قام الاتحاد الاوروبي بتقديم هذا الكمّ من القروض الميسّرة لليونان من دون فرض سلة إصلاحات تضمن استيفاء الديون؟

أما كانت الجهات المدينة على علم بالخلل في النظام اليوناني، وفساد طبقته الحاكمة؟

لِمَ تغاضت عن ذلك؟ أو لِمَ فاتها تحديد ذلك؟

 هل يجوز لمن عانى، ان يجعل الشعوب تعاني؟ وهل ما يجري حاليًّا يخدم الاقتصاد العالمي والسلم والسلام العالميين؟

إنّ ما يجري لا نتوقّعه من اوروبا التي عانت ما عانته، ومن ألمانيا التي استفادت من خطة مارشال، والتي تمّ إذلالها في معاهدة فرساي، فتولّدت حرب عالمية ثانية.

 طبعا، لم يكن أداء الطبقة السياسية في اليونان خلال الخمسين عاما اداء مثاليا. ولطالما وقعت أمّ الديمقراطية في فخاخ عدم مساءلة النخبة التي توالت على حكم هذا البلد لعشرات السنوات والتي خضعت لإملاءات الخارج.

 وإني أعتقد بأنّ من ايجابيات هذه الازمة، انها بدأت تخلق دينامية جديدة، دينامية بدأت تسهم في إقصاء حفنة لم تكن كلها نظيفة، وقد توارثت حكم بلاد الاغريق ابا عن جد.فكأنّ تأثيرات السلطنة العثمانية على العقلية بدأت تتراجع.

 ما هو مطلوب اليوم أكثر من اي وقت مضى هو إعادة جدولة ديون اليونان وتخفيض فوائد الديون في المدى القصير لإنقاذ هذا البلد من الإفلاس، وإعادة تحريك عجلته الاقتصادية المتعثرة، على ان يترافق ذلك مع اصلاحات اقتصادية وسياسية متوسطة وبعيدة المدى في اليونان تصون الديمقراطية في عاصمة أمّ الديمقراطية-اثينا.

 كما هو مطلوب أيضاً إجراء إصلاحات على صعيد المفوضية الاوروبية تضمن ملائمة سياسات الدول المالية مع السياسة النقدية وصولا الى سياسة مالية موحدة، اذا ما أرادت ضمان استمرارية الأورو وصون أمنها النقدي المعرض للاهتزاز مع كل مطبٍّ، وبالتالي الحفاظ على وحدتها.

أخيرًا، إني اعتقد انّ الاتحاد الاوروبي من دون بلاد الاغريق، هو مشروع بلا روح وبلا بعد تاريخي وحضاري، واليونان من دون اوروبا قنبلة تهدّد استقرار القارة القديمة، وتؤدي الى تفتتها. والمطلوب أيضًا ان ينظر الجميع الى ما بعد الازمة.

*****

(*) أستاذ التنمية المستدامة.

(*) جريدة النهار 7 يوليو 2015.

اترك رد