الباحث خالد غزال
يمثل تطور وسائل الإعلام أحد أكبر إنجازات الثورة التكنولوجية في مجال الاتصالات، وخصوصاً منه الإعلام الفضائي والإنترنت، ويعود إليه الدور الأساسي في اختصار الزمان والمكان، وحتى إلغائهما، وجعل العالم كله قرية كونية واحدة، وفتح باب المعرفة على كل شيء، وكشف الخفايا في كثير من القضايا.
لكنّ الثورة التكنولوجية التي تحمل من الإيجابيات الكبيرة تنتج في الآن ذاته سلبيات كبيرة أيضا. هذا ثمن كل ثورة علمية عرفها التاريخ، بحيث تعود إلى البشر كيفية استخدام هذا المنجز العلمي في خدمة الإنسان أو في ما لا يصب في خدمته.
الإعلام اليوم عامل أساسي في تكوين المعرفة وبناء ذهنية الإنسان والتحكم بصناعة الرأي العام وتطوير الحوار بين المجموعات البشرية وبناء ثقافة جديدة. هذه كلها عوامل إيجابية ساهمت في الكثير من التحولات المهمة في العالم. لكن الإعلام مسؤول أيضاً عن نشر ثقافة الغيبيات والخرافات وتشويه المعرفة والقيم الإنسانية وتسطيح الوعي وشد الجمهور إلى كل ما هو استهلاكي. هذه أمور تسجَّل في خانة التأثير السلبي في الشخصية الإنسانية. لكنّ الأثر، الإيجابي منه أو السلبي، وقدرته على أن تكون له مفاعيل، يظل مرتبطاً بدرجة تطور المجتمع وتقدمه. من هنا القول، بأنه من الخطأ إطلاق أحكام عامة على الإعلام ودوره من دون ربط هذا الحكم بطبيعة المجتمع ومؤسساته ونظمه.
كان شائعاً إلى زمن غير بعيد، إطلاق تعبير “السلطة الرابعة” على الإعلام بالنظر إلى دوره في السياسات العامة واتخاذ القرار. يحتاج هذا المفهوم إلى إعادة نظر وتدقيق في أكثر من مكان وعلى أكثر من صعيد. فالشركات المتعددة الجنسية والمسيطرة على الكثير من مؤسسات البلدان المتقدمة، تملك اليوم وسائل إعلامها الخاصة وتسعى إلى التهام سائر المؤسسات أو إخضاعها لمنطق سياستها. في هذا المعنى تحولت وسائل الإعلام إلى مكوّن رئيسي من مكوّنات السلطة. ليس هذا بالحكم المطلق، ففي الدول الديموقراطية المتقدمة، المتمتعة بحرية التعبير، يظل للإعلام موقع اعتراضي مؤثر في مجرى السياسات العامة.
في الانتقال إلى لبنان، كان في الإمكان إلى عقود خلت، إطلاق صفة السلطة الرابعة على الإعلام وخصوصا الصحافة، وذلك بالنظر إلى الدور الذي كانت تلعبه في السياسات العامة، داخلياً وخارجياً، وهو دور كان يستند إلى حد من الحرية السائدة في البلاد ارتباطاً بنظام ليبيرالي وبمساحات من الحرية كانت تفرضها مواقع الطوائف المتنافسة. لكن الحرب الأهلية وما تبعتها من تحولات بنيوية جعلت هذا المفهوم يتراجع ويتقلص إلى حد بعيد. فالإعلام اللبناني اليوم جزء مكوّن من السلطات الطائفية المهيمنة على البلاد، وهي في خدمة مشاريع هذه المؤسسات، تعبّر عن توجهاتها السياسية وتصنع لها مشاريع القرارات وتنتج لها ثقافتها الفئوية. وإذا كان التمييز ضرورياً بين مؤسسات إعلامية مملوكة بالكامل من الطوائف وزعمائها، فيما هناك مؤسسات لها حد من الاستقلالية، فإنه يمكن الجزم أنّ هذه الاستقلالية تبقى نسبية، حيث لكل مؤسسة منها ميول إلى هذا الطرف أو ذاك. أما المؤسسات المستقلة فعلا، فقد زالت تقريباً، وما بقي منها يعيش على هامش الهامش ومن دون أيّ دور مؤثر.
يساهم الإعلام، موضوعياً، في نشر فكر سياسي متعدد الاتجاه، كما يعكس التناقضات القائمة داخل المجتمع، كما يساعد في نشر فكر تنموي وفي الإضاءة على قضايا المجتمع وخلق اهتمام مختلف. هذا حكم عام ينطبق على كل بلد. لكنّ هذا الدور مشروط بجملة عوامل، في مقدمها وجود مسؤولين إعلاميين يعتبرون أنّ التنمية ومشكلاتها وهمومها تستحق أن تعطى موقعا أساسياً في وسائل إعلامهم. كما تشترط وجود خطط تنموية على مستوى السلطة العامة تتيح نقاشاً لمدلولاتها والمصالح التي تمثلها. يفترض هذا الهم النظر إلى التنمية عبر مفهومها البشري الشامل في استنهاض المجتمع وتطويره، وليس من خلال مشروع محدد في منطقة أو أخرى، على أهمية ذلك. أي أنّ التنمية في هذا المعنى ليست أقل من مشروع نهضوي شامل لكل بلاد. ليس من الظلم اتهام الإعلام اللبناني بأنّ الهمّ التنموي لا يقضّ مضجعه كما يقض مضجعه حجم الإعلانات التجارية التي يجلبها هذا البرنامج أو ذاك. لذا يبدو أن الهمّ التنموي يقيم على الهامش، باستثناء بعض البرامج غير الجاذبة للجمهور في الأصل. المفارقة العجيبة في لبنان، هي اللاتناسب بين حجم المؤسسات الإعلامية على مختلف تنويعاتها وبين إيلاء قضايا التنمية الاجتماعية الحجم الضئيل جدًا في برامجها.
إنّ العلاقة بين تكوّن المجتمع المدني والإعلام علاقة وثيقة، بحيث يمكن الإعلام أن يؤدي دورًا أساسياً في نمو هذا المجتمع. يرتبط ذلك بمدى تقدم المجتمع المدني وبمدى توفر حرية التعبير عن الرأي في كل بلد. يشكل غياب هذا العنصر أحد المعوقات في بناء المجتمع في معظم البلدان العربية. أما في لبنان، وعلى رغم اختراق بعض مؤسسات المجتمع المدني لوسائل الإعلام، فإن سعي وسائل الإعلام إلى شدّ مؤسسات المجتمع المدني إلى منطق الطوائف ومؤسساتها، يلعب دورًا معوقاً ومشوهاً لعمل الكثير من مؤسسات المجتمع المدني. وهذا أمر ازداد سلباً خلال العقود الأخيرة بعد اكتساح الطوائف ومؤسساتها لبنى الدولة، وإلحاق ما امكن من مؤسسات المجتمع المدني.
لا نظلم الإعلام اللبناني، بالجملة والمفرق، باتهامه بلعب دور سلبي على صعيد بناء السلم الأهلي وخلق ثقافة حوار ومشاركة ونقاش حول المختلف بين اللبنانيين، أو من خلال نشر الثقافة المسطحة والاستهلاكية والخرافية والغيبية التي يحشو بها عقول اللبنانيين، وصولا إلى إنتاج متواصل لثقافة الكراهية والتخوين والعمالة، أي لكل ما يفرق بين اللبنانيين ويمنع اندماجهم الاجتماعي. يتجلى الدور السلبي للإعلام في الصراعات السياسية التي غالباً ما تتخذ أبعادًا طائفية، فيتولى الإعلام تجييش جماهير الطوائف، وبث خطابها السياسي المحرض على العنف ورفض الآخر. كما يتجلى في المناسبات الجماهيرية المتصلة بالصراعات، حيث لا يتورع هذا الإعلام عن نقل الصور الحية للجماهير الغاضبة ولهتافاتها ضد الآخر، الملأى بسقط المتاع من أنواع الشتائم والسباب. لا يكتفي الإعلام بالمناسبات الجماهيرية، بل تمارس وسائله حالات من “التعذيب” اليومي للمواطن من خلال استضافتها رجال سياسة ومعلقين ومدعي الإستراتيجيات، فيصفعون المواطن بمنوّعات من الخطب السياسية حيث القليل القليل منها كاف لتوتير الأعصاب وإدخال المرء في حال من الرعب لشعوره بأنّ الحرب الأهلية ستندلع بعد انتهاء المقابلة. لا يعني ذلك موقفا سلبيا من وجود وسائل الإعلام بل على العكس هناك ضرورة ماسة لوجودها، لكنّ هذه السياسة الإعلامية تبقى انعكاساً لما تقدم البلاد في حياتها السياسية من اختلافات وصراعات وسعي كل طرف للهيمنة على الطرف الآخر، وتوسل الصراعات الطائفية والمذهبية سبيلا للوصول إلى السلطة. كلها عناصر يترجمها الإعلام في برامج تؤجج الحقد الطائفي وتزيد من هوة الانقسام بين اللبنانيين، مما يسمح بالقول إنّ وسائل الإعلام تظل من العوامل الفاعلة في تغذية النزاعات الأهلية والحروب الداخلية بين اللبنانيين.
على رغم أنّ الإنترنت يحتل اليوم موقعاً مميزًا في التواصل الاجتماعي ونقل المعرفة إلى أوسع الأوساط، بل يمثل أعلى وسيلة من وسائل الإعلام والاتصال، إلاّ أنّ الصراعات الطائفية في لبنان تخضع هذه الوسيلة، إلى جانب وسائل الإعلام المرئية، إلى منطق توجهاتها، فتتحول المواقع إلى نشر خطب وتعليقات، بعيدة عن أصول التخاطب السياسي، بل ان من يتابع معظم مواقع الأحزاب والطوائف وما تنشره من تعليقات سياسية، يكتشف ما هو أدهى وأخطر بكثير مما يسمعه الجمهور ويراه. نجد على صفحات المواقع أبشع الكلام وأسوأه في المعنى والمبنى، والتحريض الطائفي وكره الآخر وصولاً إلى الدعوة الصريحة لإبادته.
لعقود مضت، كانت وسائل الإعلام، خصوصاً منها الصحافة، تشكل مساحة من التعبير الحر والرأي المستقل، كما كانت تفسح مجالاً لسجالات سياسية وفكرية. إن الانهيار الذي أصاب بنى البلاد انعكس سلباً على هذه المساحة من الحرية، لصالح انعزالية فكرية وسياسية أصابت هذه الوسائل تبعاً لموقف مالكيها أو المسيطرين عليها. لم يعد لكتّاب، يقفون على هامش الصراعات السياسية، أن يجدوا مكاناً لإبداء آرائهم، فلقد أقفلت الصفحات الإعلامية إلا على مثقفي الطوائف ومؤدلجيها من الذين غادروا مواقع ديموقراطية سابقة وفضلوا الالتحاق بالقبيلة والطائفة والمذهب، وقبول إنتاج معرفي من سقط المتاع والابتذال.
على رغم المآل الأسود الذي انحدر إليه الإعلام في لبنان، لا يزال “الملحق” في جريدة “النهار” يغرد خارج السرب المذهبي، ويتيح حرية التعبير، ويحتضن نصوصا وآراء تقع خارج المألوف الراهن، وتشكل تحديات للثقافة المبتذلة التي يجري تكريسها. إنه نقطة مضيئة وسط ظلام كالح يلف لبنان والمنطقة العربية على السواء.
****
(*) النهار – الملحق 20 يونيو 2015